تحلق المواطنون فى أحد المقاهى فى منطقة شعبية حول شاشة التليفزيون بينما كانت تبث صور استعراض القوة الذى قام به أعضاء الجماعة الإسلامية فى أسيوط منذ أيام، ليبشرونا بأسوأ ما هو قادم منذ أن حكمنا الرئيس محمد مرسى، ممثل جماعة الإخوان فى قصر الرئاسة، قبل نحو تسعة أشهر. أعضاء الجماعة من أصحاب البنى القوية والزى المميز واللحى الطويلة، كانوا يصولون ويجولون بحرية وبجرأة منقطعة النظير فى شوارع المدينة فى قافلة من راكبى الموتوسيكلات والسيارات، رافعين أعلامهم، وقريبا جدا مدافعهم الرشاشة وصواريخ الـ«آر بى جى» التى يتقنون استخدامها جيدا، ليعلنوا ببساطة انطلاق دولة الميليشيات وطرحهم لأنفسهم كبديل لممثلى دولة القانون من رجال الشرطة المضربين عن العمل.
انفض المواطنون من حول الشاشة وعلامات الاشمئزاز الممزوجة بالقلق والدهشة تعلو كل الوجوه، بينما الأيادى تضرب كفا بكف، حسرة على ما آلت إليه الأحوال، وبغض النظر عن الآراء السياسية لكل منهم ودعمهم من عدمه للرئيس محمد مرسى وجماعة الإخوان التى يمثلها فى قصر الرئاسة، كنا نشاهد انهيار الدولة المدنية الحديثة فى بث حى ومباشر على الهواء، أو على الأقل إشارة الانطلاق.
وفى نفس اللحظة، كانت وسائل الإعلام المحلية والعالمية تتساءل إذا ما كانت الأحزاب المدنية التى تتعرض لهجمة شرسة هذه الأيام ستلجأ بدورها لإنشاء الميليشيات الخاصة بها دفاعا عن نفسها، خصوصا بعد أن ترجم أعضاء الجماعة الإسلامية سريعا عبر استعراضهم بيان النائب العام الذى ذكرنا جميعا فى هذا التوقيت، تحديدا، بمادة عمرها أكثر من ستين عاما، تبيح للمواطنين أن يقبضوا على بعضهم إذا رأوا حالة تلبس فى جريمة، مع الإشارة بالطبع إلى أن على رأس هذه الجرائم قطع الطريق وتعطيل المواصلات، بينما الاحتجاجات والمظاهرات تتصاعد فى كل أنحاء مصر لإعلان الغضب من سياسات الرئيس وجماعته الإخوانية الحاكمة.
وكل هذا كان يتم وسط صمت مطبق، إنما لم تكن سعادة داخلية دفينة من قبل مؤسسة الرئاسة. فقادة الجماعة الإسلامية الذين نظموا استعراض أسيوط، وذراعهم السياسية حزب البناء والتنمية، كانوا قبل أسابيع فقط ضيوفا كراما على السيد الرئيس فى قصر الاتحادية. فهم أيدوا إعلانه الديكتاتورى المكبل فى 22 نوفمبر، وأيدوا دستور الإخوان، وأيدوا قانون الانتخابات، وشاركوا فى كل الحوارات التليفزيونية الزائفة، وبالتالى فلا بأس من استعراض للعضلات كذلك فى سبيل إبداء الطاعة والولاء لولى الأمر قائد مصر الإسلامية.
ولا يفوت أى خبير فى شؤون الجماعات الإسلامية أن كل من كانوا يجلسون فرحين غير مصدقين حول الرئيس فى قصره لهم باع طويل فى استخدام السلاح على مدى عقود، ولم يكونوا ليحلموا بالخروج من الزنازين المظلمة التى كانوا يقضون فيه أحكاما بالسجن المؤبد لو لم تقم ثورة 25 يناير التى لم يكن لهم دور فيها مطلقا. فقادة الجماعة الإسلامية فى عهد المخلوع مبارك كانوا مشغولين ومنهمكين فى التفاوض مع جهاز مباحث أمن الدولة السابق، والعمل سويا على إخراج كتب المراجعات الفكرية ونبذ العنف، غالبا من مطابع وزارة الداخلية، وذلك مقابل وقف حملات الاعتقال ضدهم وكذلك المحاكمات العسكرية.
أما فى أيامنا هذه، وبعد تسعة أشهر من الحكم المرير لرئيس جماعة الإخوان، فإن من تربوا فى جبال أفغانستان وباكستان، وخاضوا معارك البوسنة والصومال واليمن وكل البقاع التى أعلنوا فيها الجهاد وتدربوا على كل أنواع الأسلحة، هم من يطرحون أنفسهم بديلا لقوات الشرطة التى يتهمونها صراحة بالتآمر مع النظام السابق الذى تمرغوا فى أحضانه فى السنوات الأخيرة. ولم تكن جرائم من تحولقوا حول الرئيس بابتسامات انتصار ممزوجة بالرغبة فى الانتقام، لها صلة بالأعمال الجهادية العظيمة مطلقا، بل منهم من بارك وأسهم فى قتل العديد من المصريين الأبرياء، ممن ليس له صلة من قريب أو بعيد بالمعركة التى كانت دائرة بين الجماعة الإسلامية والشرطة فى عهد المخلوع.
فالجماعة الإسلامية التى أطلقت ميليشياتها فى أسيوط لتخيف المواطنين كانت تقر وتعترف بمهاجمتها محلات الذهب التى يمتلكها مسيحيون، وبمهاجمة الكنائس فى عدة أحيان، وقتل السواح الأبرياء كما فعلوا فى الأقصر فى عام 1997 حين قتلوا 58 أجنبيا و4 مصريين بدم بارد، وبمحاولة قتل الأديب الراحل الحائز على جائزة نوبل للسلام نجيب محفوظ، وبقتل الكاتب الراحل فرج فودة الذى كانت مواجهته بالفكر صعبة عليهم فقرروا إنهاء حياته. هذا بعض من كثير جدا من الدماء التى أسالها قادة الجماعة الإسلامية الذين يقدمون الآن أعضاء جماعتهم فى صيغتهم الحديثة كبديل للشرطة وكحماة لدولة الإخوان برئاسة مرسى أو خيرت الشاطر. نعم كان يجب الإفراج عن هؤلاء ممن أنهوا الأحكام القضائية التى صدرت بحقهم، ولكن من غير المعقول أو المقبول السماح لهم بالعودة للمشاركة فى الحياة السياسية، وكأن أياديهم غير ملوثة بالدماء.
وحين يقول ممثلو الأحزاب المدنية إن أخطر ما فى المشروع الإخوانى سعيهم لهدم الدولة المدنية المصرية الحديثة، كما عرفناها على مدى العقود الماضية، فإن ما حدث فى أسيوط هو أكبر دليل على صحة هذا الاتهام. مصر، أيها السادة ممن لا يريدون قراءة التاريخ، كانت دولة تعانى من الفيضانات وانتشار الأوبئة كالطاعون حتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى، ولم تكن تعرف سلطة مركزية حقيقية تمثل الدولة. ورغم أى تحفظات على من قادوا وأطلقوا ثورة 23 يوليو 1952، فإن إنجازهم الأساسى كان الدفع نحو بناء مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، حتى لو لم تكتمل، وكذلك ترسيخ مبادئ مهمة يجب أن تتوفر فى هذه الدولة، وعلى رأسها ضرورة احترام القانون الذى يتساوى أمامه كل البشر، ويطبقه ممثلو هذه الدولة فقط، خصوصا فى بلد ينتشر فيه حتى الآن فى مناطق عديدة منه ثقافة الثأر، وأن يتولى المواطنون تطبيق القانون بأيديهم.
كان الأمل بعد الثورة أن يتم استخدام كل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها بالطبع وزارة الداخلية، من أجل خدمة أمن ومصلحة المواطن أولا، لا خدمة مصلحة النظام الحاكم وقمع المواطن لتحقيق ذلك الهدف، كما عانينا فى النظام السابق. ووسط القناعة السائدة بأن قطاعا كبيرا من العاملين فى وزارة الداخلية ممن واجهوا لعقود وطاردوا وسجنوا وعذبوا الكثير ممن يحكمون البلاد الآن لا يمكن أن يتحول ولاؤهم إلى النظام الجديد، فإن الاقتراح الذى يبدو أن مكتب الإرشاد الإخوانى يعمل عليه ويدعمه فى هذه المرحلة هو البدء فى إنشاء وزارة الداخلية الخاصة بهم، أيضا ليس خدمة المواطن وضمان أمنه ومصالحه، ولكن لقمعة وإجباره على إعلان الولاء لدولة المرشد الجديدة. يا لطيف الألطاف.