منذ رحل عن عالمنا المُفكر الفسلطينى، والناقد الأدبى العالمى، إدوارد سعيد، قبل عِدة سنوات، لم تعرف الساحة الأمريكية مُفكراً عربياً آخر ذا تأثير على الرأى العام ودوائر صُنع القرار، مثل الدكتور شبلى تلحمى، الذى يشغل كُرسى أنور السادات للسلام والتنمية بجامعة ميريلاند. ومثل إدوارد سعيد، فإن شبلى تلحمى هو بدوره من أصول فلسطينية.
ومثلما كان إدوارد سعيد غزير الإنتاج قوى الحجة، فكذلك شبلى تلحمى. مع فارق كبير فى طريقة التأثير. فقد كان إدوارد سعيد يعتمد على أسلوبه الأدبى الناقد والقاطع. أما شبلى تلحمى فهو يعتمد على لُغة الأرقام والحقائق الميدانية، التى يجمعها من مُقابلات واستبيانات آلاف المواطنين العرب، الذين يختارهم بعناية فائقة، ومنهجية عِلمية صارمة. ومن ثم تأتى نتائج دراساته غاية فى الأهمية، من حيث إنها تُقدم مادة عِلمية مُنضبطة، يمكن التعويل على دقتها ومصداقيتها، ويترك للقارئ حُرية استيعابها وتفسيرها.
وقد دأب شبلى تلحمى على تقديم هذا النوع من المعرفة العِلمية منذ قيامه بأول استطلاعاته للرأى العام العربى عام 2002م، إلى آخر هذه الاستطلاعات عام 2012م. وربما يذكر المُخضرمون ممن يُتابعون الشأن العام أن 2002 كانت سنة حاسمة فى إعادة صياغة النظام العالمى.
وفى تلك الحقبة، كان العالم العربى إحدى ساحات الصِراع بالوكالة بين الحُلفاء المحليين لكل من القوتين العظميين.
وقد وثّق هذه الحالة أستاذ العلوم السياسية الأمريكى، الراحل مالكوم كير فى كتابه الأشهر «الحرب الباردة العربية».
ولكن مع شبلى تلحمى فإننا ننتقل من المُبارزات الاستشراقية، والمُساجلات الكلامية إلى العكس تماماً. فبدلاً من الانشغال بالكيفية التى ينظر بها الغربيون إلى العرب، فإننا مع آخر كُتب تلحمى، نُطلّ على الكيفية التى ينظر بها العرب إلى العالم. من ذلك:
1- أن معظم العرب ما زالوا يعتبرون إسرائيل هى الخطر الأعظم عليهم. وتلى إسرائيل فى هذا الصدد الولايات المتحدة الأمريكية، حليفها الرئيسى الذى يدعمها دبلوماسياً، كما بالمال والسلاح. فقد كانت نسبة من اعتبروا إسرائيل هى الأخطر على العرب 70 فى المائة، تليها الولايات المتحدة 63%، ثم بريطانيا 11%. ومن اللافت للنظر هنا أن بُلداناً كُبرى أخرى مثل روسيا والصين واليابان، أو حتى ألمانيا وفرنسا لم تمثل فى نظر معظم العرب الذين شملهم هذا الاستطلاع خطراً يُذكر.
2- ولكن من الطريف أنه حينما سأل شبلى تلحمى أفراد العينة العربية عن القُطر الذى يرغبون أن يروه قُطباً دولياً مُنافساً للولايات المتحدة فى الساحة الدولية، جاءت الصين فى المقدمة (22%)، تليها ألمانيا (15%)، ثم روسيا (12%) وفرنسا (10%).
3- وحينما سأل شبلى تلحمى المبحوثين العرب عن رأيهم فى الرئيس الأمريكى باراك أوباما، وجد أن رأى الأغلبية فيه لا يزال سلبياً، وإن تناقصت هذه السلبية من 45 فى المائة إلى 24 فى المائة بين سنتى 2009 و2012. أو بتعبير آخر تضاعفت شعبية باراك أوباما. ومع مُقارنتها بالرئيس الأمريكى السابق جورج بوش، فإن أوباما، بعد مرور نفس العدد من السنوات، فى البيت الأبيض، تجاوزت شعبيته ما يصل إلى الضعف بالنسبة لسلفه.
4- ويُلاحظ د.شبلى تلحمى أن هذا التفاوت الملحوظ فى شعبية الرئيسين لا يعنى أن الرأى العام العربى يرجو خيراً من السياسة الخارجية الأمريكية تجاه قضايا المنطقة، ففى خارج العلاقة بأمريكا والغرب، فإن الرأى العام العربى كان أكثر إيجابية نحو الجارة التركية، منه نحو الجارة الإيرانية. وبلُغة الأرقام فإن نصف الرأى العام العربى يعتقد أن تركيا لعبت دوراً إيجابياً فى دعم العرب عموماً، خصوصاً بُلدان الربيع العربى «تونس ـ مصرـ ليبياـ اليمن ـ البحرين ـ سوريا». بينما لم يذكر إيران بالخير بأى نسبة يُعتد بها إحصائياً.
وبعيداً عن د.شبلى تلحمى، لا يمكن تفسير هذه الشعبية التى تحظى بها تركيا إلا فى ضوء الموقف الحاسم للحزب الحاكم فى تركيا، وهو العدالة والتنمية، ولزعيمه رجب طيب أردوجان، فى تأييده للقضية الفلسطينية ونقده اللاذع للسياسة الإسرائيلية، خاصة منذ حادث سفينة الحُرية، التى كانت فى طريقها إلى غزة، والتى هاجمتها قوة إنزال إسرائيلية فى المياه الدولية، وقتلت عدداً من رُكابها وطاقمها، وبينهم أتراك. كما لا يمكن أن نتجاهل القوة الناعمة للمُسلسلات التليفزيونية والدراما التركية، والتى يتم تعريبها. وقد لاقت رواجاً كبيراً فى السنوات العشر الأخيرة.
وفى السياق نفسه، حينما سأل شبلى تلحمى عن رأى المبحوثين العرب فى التدخل العسكرى الدولى للإطاحة بنظام بشّار الأسد بعد أكثر من سنة على الانتفاضة السورية، رفض ذلك تماماً أكثر من 43 فى المائة. ولكن من بين الذين وافقوا، حظى البديل التركى بثانى أعلى نسبة، وهى 15 فى المائة، وهى أكثر قليلاً من البديل العربى الخالص (14%).
5- وأخيراً، كان تقييم العرب لانتفاضات بُلدانهم جديراً بالتأمل، فقد ذهب أكثر من نصفهم (57%) إلى أن تلك الانتفاضات هى تعبير أمين عن شوق الناس العاديين إلى الكرامة، والحُرية، وإلى حياة أفضل. ويقترب هذا كثيراً من الشعارات التى رفعها ثوّار ميدان التحرير، فى الخامس والعشرين من يناير 2011 ـ وهى عيش، حُرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية. وذهب حوالى 20 فى المائة إلى أن الذى فجّر هذه الانتفاضات أحزاب المُعارضة الطامعة فى السُلطة، وكانت هناك نسبة مُساوية (20%) ما زالت تعتقد فى «نظرية المؤامرة»، لذلك ذهبت إلى أن قوى خارجية هى التى فجّرت ثورات الربيع العربى.
إن دراسات الدكتور شبلى تلحمى عموماً، وكتابه الأخير خصوصاً، جديرة بالقراءة المُتأنية والفحص الدقيق، فهو الأكثر موضوعية فى قراءة العقل العربى، فى مطلع القرن الحادى والعشرين. فله الشُكر والعرفان.
وعلى الله قصد السبيل.