يمثل الآن أمام المحكمة حوالى أربعين ضابطاً من جهاز أمن الدولة السابق، وعلى رأسهم رئيس الجهاز اللواء حسن عبدالرحمن، والتهمة الموجهة لهم هى فرم مستندات خاصة بأمن الدولة بناء على أوامر صدرت لهم من رئيس الجهاز، وذلك فى الأيام الأولى للثورة، أو فى الساعات الأخيرة للنظام السابق، وحكاية التخلص من وثائق أمن الدولة السرية للغاية عندما تتعرض لخطر الانكشاف، وما يترتب على ذلك من كوارث لآلاف الأشخاص والشخصيات فى المجتمع من المتعاونين مع الجهاز- حكاية معروفة فى التاريخ، وكان آخرها ما حدث فى ألمانيا الشرقية غير أنهم هناك لم يعدموا هذه الوثائق بعد انهيار سور برلين، بل اكتفوا بإبقائها سرية، وأنا أعتقد أنهم فعلوا ذلك ليس حرصاً على سمعة بعض البشر، بل لعدم إضاعة الوقت، وقت الدولة ووقت الناس ووقت المجتمع، وأيضاً لكى لا يفقد جهاز أمن الدولة ثقته بنفسه بما يمثله ذلك من خطر. لست أعلق على حكم أو أحكام صدرت، ولكنى أفكر فى الأحكام التى ستصدر بعد عام أو عامين على الأقل. أربعون متهماً، بأربعين محامياً على الأقل، بأربعين مرافعة للنيابة والدفاع، بمائة شاهد على الأقل، بعدة مئات من أفراد الأسر، الذين سيتحركون كل يوم قادمين من السجون ذاهبين إلى مكاتب المحامين ووكلاء النائب العام، أطنان الورق، ملايين الكلمات المنطوقة فى قاعات المحاكم والفضائيات، وفى نهاية الأمر تكتشف المحكمة أن هؤلاء الموظفين العموميين لم يرتكبوا جريمة قط عندما قاموا بتنفيذ الأوامر، التى صدرت إليهم من رؤسائهم، وأن الفعل الذى قاموا به لم يكن يشكل جريمة فى ذلك الوقت، وربما فى أى وقت آخر، فأنا أستبعد تماماً أن يرفض الآن أحد ضباط الأمن الوطنى التخلص من وثائق معينة عندما تصدر له الأوامر بذلك.
أعتقد أن عدداً كبيراً من القضايا التى تنظرها المحاكم هذه الأيام، وعدداً كبيراً أيضاً من القرارات الصادمة للرأى العام فى مصر وخارجها ــ ساويرس على سبيل المثال ــ الدافع لها ليس الرغبة فى الانتقام أو الكراهية، بل الرغبة فى إضاعة الوقت بدافع من العجز عن فهم الواقع، وانعدام القدرة على التعامل المثمر مع هذا الواقع. هناك فرق كبير بين عقلية كتاب المسلسلات التليفزيونية وكتاب الدراما الحقيقية، والسياسة دراما حقيقية يتم فيها استبعاد المشهد الذى لا يدفع الحدث إلى الأمام. كتاب المسلسلات يصطادون أى حدث يطرأ على خيالهم ليحشروه فى حكايتهم، أما كتاب المسرح وصناع السياسة أيضاً فهم لا يرتكبون هذا الخطأ، وهو إضاعة وقتهم ووقت المتفرج، أقصد وقت المواطن، وحتى عندما تكون كل الأحداث وكل الأفعال مهمة فهم يختارون أكثرها أهمية. أنا أفهم أن نحاكم شخصاً أو أشخاصاً، لأنهم عذبوا إنساناً ما، أما أن أضيع الوقت فى محاكمات يعرف الجميع نتيجتها، فهذا أمر أنا عاجز عن فهمه.