دائمًا ما ننصرف عن الرسالة، ومحتواها، وجوهرها، ونركز على حملة تلك الرسالة، وأخطائهم الشخصية.
البرادعى مثالًا.
دائمًا ما كنت أعتبر البرادعى متأخرا فى أقواله، ومواقفه، دائمًا ما كنت اعتبره متأخرا عن الحراك الذى يحدث، وأقل حدة مما ينبغى.
أعتقد الآن، على الرغم من أنى لم أكن من المشاركين فى استقبال الرجل، أو المهتمين بالانضمام داخل لواء تجمعاته السياسية، أنى أخطأت، وأخطأ كثيرون فى حقه.
أعتقد الآن، أن خطأنا الأول، الأكبر، الأعظم، أننا انتظرنا شيخًا لقبيلتنا، ينعقد له لواء الزعامة، لواء الأبوة الوطنية، والرجل كان يرى غير ذلك.
كنا نريد رجلا على طراز جمال عبد الناصر، لكن دون أخطاء جمال، ودون قمعه، وتهوره، وخطبه الرنانة التى ما زالت تؤثر فى قطاع ليس بالقليل منا.
كنا ننتظر غاندى مصريًّا، أو بعثًا جديدا لقائد يطوى صفحات الخنوع والذل سريعا، ونمضى وراءه بقوة نحو وطن جديد، حلم ممكن، بحياة أفضل.
لكننا حمَّلنا الرجل ما لم يتفوه به، وما لم يطلبه هو شخصيا.
فكانت صدمتنا، كانت صدمة لأحلام عُقدت عليه، ولم يصدق هو عليها.
رجل أتى ليشارك فى حلم التغيير، وأنه جزء من الحلم، فجعله بعضنا الحلم، وغضب البعض الآخر -و أنا منهم- لهروبه من كونه الحلم.
الرجل لم يطلب، ولم يخبرنا أنه يريد شيئا، ونحن حمَّلناه ما لم يُطِقْ، فغضبنا، وكفرنا به، وهو لم يقل أن آمِنُوا بى.
انصرفنا عن رسالة الرجل، التى أراد لها أن تصل، وحاسبناه على نفسه.
وانصرف أنصاره عن رسالته، ومجَّدوا له نفسه، ومجدوها لغيره، وهو لم يطلب، فأصبح هو القضية، وأصبح هو المَلُوم على كل شىء.
وحينما رأى مَن مجَّده، ورفع صوره فى كل مكان الهجوم على الرجل، هرب، وشقّ طريقًا آخر، كأن لم يكن منه أى فعل تمجيد، أو تعظيم، أو تقديمه كنبى أتى إلينا لينقذنا مما فعله فينا مَن سبق.
نحن جزء من مجتمع، لم يعرف بديلا حتى الآن من سلطة الأب، شيخ القبيلة، لم يعرف بديلا من صورة الزعيم، لذلك كان مأزقنا الأكبر مع مبارك أنه فى بدايته كالماء معدوم المذاق، وفى نهايته، كالدواء الفاسد، لا يشفى بل فقط يميت.
لن ننتصر، إلا لو علمنا أن لا قادة، وأنه قد ولَّى زمان الرسل والأنبياء، وأن المعجزة الوحيدة التى قد تحدث فى زماننا، هى أن لا نكون تحت رحمة أحد، سواء كان من الداخل أو من قوى الاستعمار الاقتصادى الجديد.
لن ننتصر إلا لو آمنَّا، أن العساكر فى رقعة اللعب، أفضل من كل البيادق، والأحصنة، والوزراء، وأن أضعف قطعة فى الرقعة هى الملك، الذى لا يتحرك إلا خطوة واحدة، وأن إعلان موته يعنى خسارة اللعب.
لن ننتصر إلا عندما نوقن، أن أقل القطع حظا، إن تمسكت بموقعها، وتحركت بخطوات ثابتة نحو الطرف الآخر من الرقعة، يمكن أن تأتى لك لا بوزير واحد، بل باثنين أو أكثر، وعندها سيكون النصر بسبب العسكرى، لا أى قطعة أخرى، لأنه من أتى بقطع الفوز.
«إحنا عساكر يا عمّ، والباقى كله زُعَما»، أعتقد أن تلك كانت أهم جملة سمعتها خلال السنوات العشر الماضية، كانت من محمد فوزى، رفيق الزنزانة، الذى لا يعلم حتى الآن ربما، كيف أن جملته غيرت أفكارًا كانت ثابتة، والتى كانت مبنية على ضرورة وجود شيوخ، زعماء، قادة، طليعة، إلخ.
قبل تلك الجملة، كنت مثل أى فرد آخر، يحلم أن يترقى من مجرد قطعة صغيرة مشابهة لآلاف القطع الأخرى، إلى قطعة مهمة ونادرة، فقدت الكثير منى وأنا أحاول، وكنت سأفقد أكثر وأكثر، إن لم أسمع تلك الجملة، وتستدعِها خلايا مخى فى كل مرة أكتئب، أو أحبط، أو أحنق من جميع من حولى...
لذلك، كانت أهم جدارية عندى هى جدارية تنين، التى رُسمت على جدار مكتبة الجامعة الأمريكية فى شارع محمد محمود، والتى تمثِّل رقعة شطرنج فى طرفها عساكر تقوم بالانتصار على ملك الطرف الآخر من الرقعة.
كانت نفس الرسالة فى كل الأديان، الثقافات، الحضارات.
أن الغَلَبة للضعفاء إلى أن يتجبروا، فيهزموا، ويأتى آخرون، فيتجبروا، ليهزموا.
هُزم العدوّ، حينما قرر أنه مبعوث الله فى الأرض.
هُزم العدوّ، حينما غرَّته الأمانى.
هُزم العدوّ، حينما نظر حوله فأعجبته دنياه.
لن ننتصر ببرادعى أو حمدين أو غيرهما.
لن ننتصر إن علَّقنا آمالنا على آخرين، معتبرين أنهم الأعلم، الأقوى، أو الأفضل.
لن ننتصر إلا إن آمنَّا بحقّ، أن لنا فى كل شبر من أرضنا حقًّا.
وأن حلمنا حق، وأن إيماننا حقّ، وأن القادم هو لنا جميعًا.
الطريق واحد، لن يتغير، سالكوه يشْكون الغربة، وهوانهم على الناس.
الطريق واحد، لن يُزرَع لنا بالورود، ولن تنتظرنا فى نهايته حور العين.
الطريق واحد، لن يجعله أحد لنا أفضل، ولن يصبِّرنا على أهواله أحد، غير أنفسنا.
الغضب عدو، الانتقام عدو، الإحباط عدو، فيكفينا أعداء من خارجنا، لنخلق لأنفسنا أعداء جددًا من داخلنا.