من الطبيعى أن يجلس أى «نجم» إعلامى أو «فضائى» أو «رجل مجتمع» أمام الكاميرات أو الصحفيين المبتدئين ليتحدث عن عصاميته الاستثنائية وقصة كفاحه الجبارة ونشأته الفقيرة، مؤكدا أنه بدأ من القاع ليصل إلى القمة. ومن أجل إعطاء كلامه شرعية أخلاقية مقيتة، يمكنه أن يقسم «طلاق بالتلاتة» أنه المتحدث الرسمى باسم أطفال الشوارع والمهمشين والفقراء والعمال والفلاحين. ولكن عندما يستقيم الحديث، يبدأ نزع الأقنعة واحدا وراء الآخر. فنجد أن نفس النجم المؤرخ الإعلامى السياسى الفنان «الجبار» يستخدم جملا وعبارات كل واحدة منها كفيلة لا بنزع الأقنعة فقط، بل بخلع ملابسه الداخلية.
قبل أن ندخل فى الموضوع، أود أن أذكر أن الكُتاب الكبار فقط هم الذين لم يستلهموا التراث ويعيدوا إنتاجه وإنتاج الميثولوجيا الشعبية فقط، بل أضافوا أيضا للميثولوجيا الشعبية وللتراث نماذج وأنماطا ولعبوا فنيا وإبداعيا فى الأمثال الشعبية لإنتاج أنماط ونماذج وأشكال فى التراث الشعبى والحياة العامة. ربما كان نجيب محفوظ هو الكاتب المصرى الوحيد الذى إذا كان قد أنتج لنا «سى السيد»، فقد أنتج أيضا «محجوب عبد الدايم»، لنكتشف أن الأخير لقى ترحيبا كبيرا فى غالبية الإنتاج الإبداعى فى مصر ليتكرر بأشكال مختلفة على خلفية قوته كنمط تفكير ومهنة ونموذج فى المجتمع المصرى بصرف النظر عن نشأته وانتماءاته الاجتماعية والفكرية ومهنته الظاهرية.
يذهلنى «النجم» بحديثه عن «الاحتقان السياسى» و«انعدام الثقة بين المعارضة والإخوان المسلمين». ويذهلنى أكثر عندما يقول مثلا إن «هناك بلطجية يمارسون العنف ضد الإخوان أو مع الإخوان، وهناك أطفال شوارع ليس لهم جدول أعمال سياسى، يقومون بالاندساس وسط المتظاهرين لإثارة العنف والفوضى، والشارع الآن فى مصر نصفه ثوار ونصفه بلطجية». وتصل المأساة إلى لحظة «التنوير» بقوله، مشددا على أنه «إذا أصر الرئيس مرسى على موقفه الرافض لمطالب المعارضة مع استمرار تراجع شعبيته فإن هذا يعطى الفرصة لدخول الجيش. ودخول الجيش فى هذه الحالة لن يكون انقلابا عسكريا بل إنقاذ الدولة من الانهيار، أى سوف يكون واجبا وطنيا. وقرار الجيش بالتدخل فى السياسة سيكون أشبه بقرار حرب، ولن يتم ردعه».
إنها فلسفة كاملة ووجهة نظر ومنهج ورؤية للعالم، تبدأ من أطفال الشوارع والبلطجية وتنتهى بعودة الجيش بطلا مغوارا لإنقاذ الدولة! فأى احتقان سياسى، ولدى مَنْ، وبين مَنْ ومَنْ؟ إن مصطلح «الاحتقان السياسى» يستخدم للتعامل مع أزمة ساخنة عابرة فى ظل دولة مؤسسات تستند إلى معايير واضحة من حيث الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والممارسات القانونية، لا فى دولة تخضع بعض وحداتها الإدارية لقوانين الطوارئ وحظر التجول، والبعض الآخر أعلن بالفعل العصيان المدنى. بينما الاشتباكات دائرة بين المتظاهرين والمعتصمين والمحتجين وبين أشكال وألوان من قوات الأمن وأجهزته، والدماء تراق والأرواح تزهق.
أى «انعدام ثقة بين المعارضة والإخوان المسلمين»؟ انعدام الثقة كان مجرد مرحلة بدأت وانتهت فى غضون شهرين بعد 25 يناير 2011. انتهت فى 19 مارس 2011 بين المصريين من جهة وبين كل من المجلس العسكرى تحديدا والقوى اليمينية الرجعية المتطرفة بكل أشكالها وأزيائها، وعلى رأسها الدينية، وتحولت إلى صراع ومواجهة وأمر واقع لا تجدى معها العبارات الرخوة والكلمات المتحذلقة والبكاء والعويل والتعديد و«وش الكلب» الذى يستجدى «الجيش» للنزول من أجل «إنقاذ الدولة».
مَنْ الذى قال إن البلطجية الذين يمارسون العنف ضد الإخوان أو معهم، وإن أطفال الشوارع المندسين الذين يقومون بإثارة العنف والفوضى، يجب أن يكون لديهم أجندة سياسية؟ هنا أرى السادات ومبارك ومرسى يتحدثون. وأرى نجوما إعلامية سياسية فكرية تنظيرية تواصل نفس الحديث! إن حركة ما تسميهم أنت بالبلطجية وأطفال الشوارع تقاس وتحكَم بقوانين أخرى فى ظل التحولات التاريخية والاجتماعية. وإذا عدتَ أنت، أيها النجم الشهاب -محجوب عبد الدايم- إلى بداياتك العصامية التى تلوكها أمام الكاميرات والصحفيين المبتدئين، ستكتشف أنك كنت لا بد أن تصبح أحد هؤلاء البلطجية وأطفال الشوارع. البلطجية وأطفال الشوارع يشكلون نسبة ضخمة وبالملايين منذ اعتمد أجدادك القدامى سياسة الانفتاح الاقتصادى وأنزلوا قوات الأمن المركزى ونفس «الجيش» لقمع «انتفاضة الحرامية»! فهل تعرف ماذا يعنى أن يتحول شعب بالكامل إلى «حرامية» و«بلطجية» و«أطفال شوارع»؟ إنها انتفاضة فثورة، يا محجوب يا عبد الدايم! أم أنك، يا ابن النخبة أبا عن جد، لا ترى إلا أن يتم الوفاق والتآخى والحب والحوار الوطنى والمصالحة الوطنية بين النخب لكى تنصلح الأمور ونعيش فى «تبات ونبات»؟
بأى منطق، سوى بمنطق محجوب عبد الدايم، عندما يرفض مرسى المنهار شعبيا مطالب المعارضة، فيعطى ذريعة للجيش بالتدخل لحماية «الدولة» ولا يعد ذلك انقلابا بل واجب وطنى لإنقاذ نفس «الدولة»؟ فى هذه الحالة، لا بد لمحجوب، وبمنطقه الديوثى، أن يؤكد فشل المعارضة وتشرذمها وانقسامها بعبارة حق يراد بها باطل! إذن، على كل محجوب فى مصر أن يطور من أدائه، أو يترك المهنة للأجيال المحجوبية الصاعدة. فنحن أولاد الشوارع لم نعد كما تروننا، ولم نعد تلك اللقمة السائغة. لقد امتلكنا حريتنا الداخلية بنات وصبيانا. إنها ثورة، يا محجوب!