كلما ظهر أن الاختيار الوحيد أمامنا، داخليا أو خارجيا، هو: إما أن نتصرف كالرجال وإما لا، فإن اختيار المتنطعين على عرش مصر الآن هو دائما: لا. هكذا بكل إباء وشمم. ثبات على المبدأ أثار إعجاب العدو قبل الصديق. تمسك بالموقف، أذهل حتى المتخصصين فى سيكلوجية القتلة بالريموت كونترول. إصرار غير عادى، قلما يجود الزمان بمثله، على الاستماتة دفاعا عن المكانة الفريدة التى انتزعوها بكل استحقاق فى قاع بالوعة التاريخ. فلقد تمكنوا من ابتداع منظومة أخلاقية خاصة، تجبّ كل ما عرفه الإنسان على مدى تاريخه الطويل. منظومة أخلاقية، تعتبر أن الدفاع عن الكرامة ترف، وأن العزة تضيع المصالح، وأن التمسك باستقلال الوطن مغامرة غير محسوبة. منظومة أخلاقية تؤمن بأن النزاهة تكمن فى تزوير الانتخابات، وأن الكذب ليس حراما ما دام على من هم خارج الجماعة، وأن السحل والتعذيب يدلان على حسن التنشئة، وأن القتل هو سيد الأخلاق. فضلا عن الاستيلاء على المال العام والضرب بالقانون عرض الحائط وتمريغ الوجه تحت أقدام رعاة البقر، هى الفضائل الأساسية التى يجب أن يتحلى بها كل من يجاهدون من أجل مشروع النهضة. منظومة أخلاقية ترى أن كسب رضا إسرائيل ذكاء، وأن الخطوة الأولى نحو تحرير القدس هى الانسحاق أمام نتنياهو، وأن إهداء مفاتيح المدن والقرى وبيوت الآمنين وحضانات الأطفال إلى الغزاة هو الموقف الذى يليق بالفرسان، وأن دعوة العدو إلى حجرات نومنا لا يدل إلا على كرم الضيافة. أما الدليل على التمتع بالنظرة المتعقلة إلى الواقع، فهو الدخول معه فى مفاوضات هادئة لا بد أن تكلَّل آخر الأمر باتفاق دائم على اقتسام الزوجات، يحصل هو بموجبه على حزام أمنى يمتدّ من الرأس إلى الساقين، تاركا لنا حذاء السهرة الجديد. نحن نحتكر لأنفسنا التقبيل، على حين يتولى هو الباقى.
لا أدرى لماذا، بينما أنا أستعرض العناصر الأساسية فى منظومة هؤلاء الأخلاقية الخاصة، خطر على بالى: اسم مهنة.
وعلى هذا الأساس، بدأت أبحث عن المعلومات الدقيقة لحالة المرارة لدينا. الأطباء قالوا لى إن اسمها العلمى هو: الحوصلة المرارية. المرارة أو الحوصلة المرارية ماتفرقش. المهم أن مرارة البلد اتفقعت من زمان. قال لى الأطباء المتخصصون إن الحوصلة المرارية اكتشفها الطب العربى -على ما يبدو- منذ عصوره الأولى عند الحيوانات أو الطيور. لكنه لم يتطرق إليها لدى الإنسان لأن تشريح الجسد البشرى كان حتى عهد قريب من المحرمات. شكلها لا يختلف كثيرا عن البالونة الصغيرة أو الكيس المنتفخ قليلا. أما الوظيفة، فتتلخص فى اختزان السائل المرارى الذى يفرزه الكبد ليساعد على هضم المواد الدهنية. انفجارها أو تسرب ما بداخلها إلى بقية الجسم يشكل خطورة بالغة على الحياة. تلك هى الحوصلة المرارية باختصار.
ولم أسمع أن أحدًا من علماء التشريح أو الطب -قديما أو حتى فى العصر الحديث- قد أشار إلى الحوصلة المرارية داخل النفس. تلك التى من المفترض أن تختزن كل ما يتجرعه الإنسان من مرارات منذ أن يأتى إلى هذه الدنيا حتى يغادرها. أين تقع بالضبط؟ هل تختبئ فى مكان ما خلف أسوار العقل الباطن أو بين ثنايا ما يسمى باللا وعى؟ أم أن السائل المرارى -نفسيا- يظل يتجمع هناك فى قاع الذاكرة إلى أن نغرق نحن فيه حتى الأذنين دون أن نشعر؟ كيف نتجنب الإصابة بالاكتئاب المرارى؟ ثم: هل هناك فى العالم بأكمله من اكتشف مصلًا أو دواءً أو تطعيمًا يقوى جهاز المناعة ضد الإخوان؟ ربما يجد علماء التشريح أو الطب فى المستقبل إجابات على هذه الأسئلة.
ماذا يحدث لو استطعنا -على نحو ما- التقاط صورة بالأشعة تحت الحمراء لوضع الحوصلة المرارية -نفسيا- داخل الغالبية الساحقة من المصريين، أو حتى داخل مصر نفسها؟ ما الذى يمكن أن نجده غير كيس متهرئ؟ كيس فى حالة انتفاخ مزمن انفجر بسبب المرشد وجماعته ومرسيه. وقد يؤدى إلى تسمم الجسد الوطنى فى أى لحظة. فى أى لحظة.
وعلى رأى المثل: ابن الحرام ماخلاش لابن الحلال حاجة. المثل معناه أن أولاد الحرام استطاعوا التسلل إلى أغلب المواقع الحساسة على حساب أولاد الحلال. لكن السؤال يبقى: من ذا الذى يلقح عليه البسطاء فى مصر، عندما يتكملون عن ابن الحرام؟ من هذا الذى يشاورون عليه هو بالتحديد؟
ابن الحرام، بالمفهوم الذى يتفق عليه المصريون منذ فجر التاريخ، ليس هو الشخص الذى شاء قدره أن يولد خارج نطاق الزواج الموثَّق. الشعب المصرى عجوز يرفض الاحتفال بعيد ميلاده الكذا ألف، بينما أحفاده فى أمسّ الحاجة إلى هذه الشموع، ليستعينوا بها على دكتاتورية الظلام التى أخذت تبيض وتفقس فى جميع المآقى. الشعب المصرى عجوز ينحاز إلى المضطهدين. لا يمكن أن يقهر بريئا بجريرة غيره. ابن الحرام، بالمفهوم الذى يتفق عليه المصريون منذ فجر التاريخ، هو من يتنكر لأهله، أو يخون بلاده، أو يبعث بعساكره المدججين بالسلاح ليضربوا أو يسحلوا المواطنين العزل فى الشوارع، أو ليستعلى على أداء تحية العلم، أو ليريح مؤخرته المتنطعة على المقعد حتى لا يقف أثناء عزف السلام الوطنى. ابن الحرام هو من يتحرش ببنات مصر أو سيداتها، بينما هن مصممات على المشاركة فى التظاهر، وهن بذلك يثبتن أنهن أرجل منه مائة مرة. ابن الحرام هو من يخاف من حرية التعبير ويرتعد فى مواجهة الأقلام الشريفة. إنه من يمصّ دم الجياع، ليحوله إلى دولارات يخبئها فى بنوك العدو الذى أصبح أعز أصدقائه. ابن الحرام هو من يضع تحت مخدة أبناء شعبه فى ليالى الأعياد علبا ممتلئة بالهدايا، كالسحل أو التعذيب حتى الموت فى سلخانات الأمن المركزى بالجبل الأحمر. ابن الحرام هو من يعتبر الناس جميعا لا شىء. يكفى -لكى يصبح الواحد جديرا باللقب- أن يرتكب واحدة فقط من هذه الجرائم. واحدة فقط تكفى.
هذا -باختصار شديد- هو ابن الحرام، بالمفهوم الذى يتفق عليه المصريون منذ فجر التاريخ. فهل يختلف على ذلك أحد؟ الإجابة: نعم، تسألنى: من هو؟ أقول لك: ابن الحرام.