فى سنوات مبارك الأخيرة كنا نسير نحو اللادولة، كانت الدولة تستقيل من بعض وظائفها وأدوارها، وسلمت تلك الأدوار إلى «وكلاء» لها أو عنها، وكلاء وليسوا بدلاء، تركت الدولة مواطنيها الأقباط إلى الكنيسة والبابا شنودة، تركت العشوائيات للإخوان وللسلفيين، تركت الأزمات بين المسلمين والأقباط للمجالس العرفية ولموائد الوحدة الوطنية الرمضانية، وقتها كتبت محذراً من أننا نسعى نحو اللادولة.
الآن نحن نعيش اللادولة، ففى 11 فبراير 2011 قررت الدولة أن تضحى برأس النظام حفاظاً على وجودها وبقائها، ولم يكابر رأس النظام فى الرحيل حفاظاً على الدولة، واليوم نجد من لديه استعداد للتضحية بالدولة من أجل النظام ورأس النظام، وقد تأتى لحظة يكتشف النظام أنه صار بلادولة فلا يصبح هناك أى معنى لوجوده، أو لبقائه، إذ يستوى الوجود مع العدم وقتها.
مدن القناة وتحديداً بورسعيد، تعيش محنة خاصة وتخوض عصياناً مدنياً لأكثر من أسبوعين ولا تتخذ الحكومة خطوة واحدة تجاه هذه المدن ولا يقدم الرئيس على مبادرة لتجاوز تلك الأزمة. علاقاتنا الخارجية مرتبكة مع العالم كله فيما عدا إسرائيل والولايات المتحدة، هناك أزمة على الحدود مع ليبيا وأزمة مكتومة مع السودان ومع المملكة العربية السعودية وثالثة معلنة مع الإمارات، ولا تتحرك الرئاسة ولا يطلب الرئيس من الخارجية أن تتخذ خطوات.. فى الداخل أزمات متفجرة، آخرها أزمة السولار وإضراب سائقى الميكروباص.. وزارة الداخلية تنفجر من داخلها ولأبنائها الكثير من المطالب بعضها عادل ومنطقى مثل عدم الزج بهم فى الصراعات السياسية وهذا مطلب قديم للأمة المصرية بأن تحل المشاكل السياسية سياسياً وليس أمنياً.
المشكلة أن النخبة الحاكمة الآن، ليس لديها أفق للمستقبل، وللتدقيق فإن نخبة الإخوان المسلمين الحاكمة ليس لديها رؤية للمستقبل لأنها بلا مشروع سياسى ولا مشروع أو تصور نهضوى، ليس لديها حتى مشروع دينى، من مشاريع الإحياء أو التجديد، ثبت أن مشروعهم هو مشروع للسلطة.. الوصول إلى الكرسى والإمساك به، ولأنهم بلا مشروع مستقبلى فليس لديهم إدراك للواقع وما يكتنفه من مخاطر، كما أنهم يفتقدون الوعى بالتاريخ، تاريخ مصر وقت الأزمات ولحظات انهيار الدولة.
لا تتوفر لدينا معلومات دقيقة عن هذه اللحظات فى التاريخ القديم، لكن لدينا الكثير من التفاصيل عن مشاهد انهيار الدولة المصرية فى العصر الإسلامى، وكان ذلك يحدث مع الغزو أو الاجتياح الخارجى، وقدم لنا ابن إياس وابن زنبل الرمال الكثير من مشاهد ودقائق الانهيار مع غزو سليم الأول مصر وإسقاط الدولة المصرية نهائياً، وسرقة كوادرها وخبرائها وعلمائها وسرقة ممتلكاتها، أو تحويل مصر إلى مجرد ولاية عثمانية، وكانت الدولة تنهار أسرع مع الأزمات الاقتصادية والمجاعات، المشهد الأبرز لذلك هو ما عرف فى التاريخ باسم «الشدة المستنصرية»، وبح صوتنا من القول إن المصرى الطيب المتسامح يتحول مع الأزمة الاقتصادية إلى وحش كاسر.. فى الشدة المستنصرية كانوا يخطفون الأطفال وكبار السن ليس كرهائن، ولكن لذبحهم وطهيهم، وكانوا مفعلون ذلك مع جثث القتلى، وإذا لم يكن الرئيس يعلم ذلك فمن واجب المحيطين به من مساعدين ومستشارين أن يوضحوا الأمر له، إن كانوا يدركون ويعرفون، فنحن على أبواب شدة اقتصادية ومشاهد العنف واحراق المبانى والممتلكات العامة وإتلاف مؤسسات الدولة.. وفى العموم ما نراه ونلمسه فى إنهيار الأمن ليس سوى البدايات.
الغريب أننا فى العصر الحديث تعرضنا للاحتلال الأوروبى مرتين، الأولى مع نابليون وحملته سنة 1798 والثانية مع الإنجليز سنة 1882، وفى كل مرة كان المحتل الأجنبى حريصاً على إقامة دعائم الدولة كما فى حالة نابليون، والحفاظ على مؤسساتها كما فى حالة بريطانيا سنة 1882، ولا مجال هنا لسرد الكثير من التفاصيل عن التجربتين، كل منهما جاء إلى مصر غازياً ومحتلاً، لكن لديه وعى بالدولة القومية للحفاظ على المجتمع وعلى الوطن، وذلك لأن المشروع الاستعمارى كان نتاج الدولة القوية الأوروبية، بينما الرئيس «المدنى المنتخب»، المصرى أولاً وأخيراً ليس لديه خبرة كافية بمعنى الدولة وقيمها ومؤسساتها وأدوارها، يتصور الرئيس أن الدولة بخير، إذا لم يكن هناك متظاهرون حول الاتحادية، حتى إذا أضرب ضباط الداخلية ودخلت محافظات القناة والوجه البحرى فى شبه عصيان مدنى.
نحن - الآن - نشاهد الدولة تتحلل وتتآكل، ولا نجد فعلاً سياسياً، نسمع كلاماً وأحاديث معادة ومكررة من رؤوس النظام، الذين لا يعرفون معنى الدولة وكل خبراتهم بالعمل غير المشروع ولا أقول السرى.. الدولة أكبر وأعمق كثيراً من النظام، والنظام كذلك ليس مجرد كرسى الرئاسة، ننتظر فعلاً ومبادرة سياسية قبل أن تسقط الدولة أو يقع الانقلاب والتدخل الدولى. الفعل من الرئيس المنتخب، واجبه الدستورى أن يفعل وليس أن يتكلم فقط وأن يظهر للناس، هو ليس الإمام الغائب وليس الجبلاوى فى أولاد حارتنا.