مجنون ومنحطّ.. من يتصور أن الاعتداء على صحيفة سوف يُسكِت الكلمة الحرة أو يمنع الحقيقة من أن تصل إلى الناس.. ما حدث مع صحيفة «الوطن» وقبلها مع «الوفد» لن يزيد الصحفيين إلا إصرارا على أداء مهمتهم المقدسة، والتهديدات التى لا تتوقف بقتل أصحاب الرأى المعارض لن تخيف أحدًا. بل ستحفر القبور للفاشيين الجدد، وتكتب كلمة النهاية لأعداء الحرية مهما استخدموا أسلحة القمع، ومهما ساروا على طريق الاستبداد.
ومجرم لا يستحق الرحمة، من يسعَ لنشر الخراب فى أنحاء الوطن، ومن يتصور أن إحراق مؤسسة عامة أو خاصة -أيًّا كانت الأسباب- هو عمل يمكن أن يخدم قضيته. صحيح أننا نواجه قوى فاشية لا تتورع عن فعل أى شىء للاستيلاء على مؤسسات الدولة، لكننا قادرون على هزيمتها بالمقاومة السلمية. وصحيح أننا نواجه رصاص الغدر وميليشيات تلطخت أيديها بالدماء، ولكننا لن ننجر إلى مخطَّط نشر العنف وإغراق الوطن فى أنهار الدم كما يريد البعض، معتمدًا على تاريخه الطويل ومحاولاته التى لم تنقطع للاستيلاء على الدولة عن طريق القتل والتدمير والإرهاب والاغتيال!
وكم كان مؤسفًا أن ينجرّ بعض شباب «الأولتراس» إلى هذا الطريق، وأن نرى حريق مقر اتحاد الكرة ونادى الشرطة الاجتماعى، فى الوقت الذى كان فيه بعض «المجهولين» ينشرون التخريب والدمار فى وسط القاهرة ويهاجمون بعض المحلات والمؤسسات فى محاولات مشبوهة لا علاقة لها بالثورة ولا بالثوار.
مقابل هذه الصورة المؤسفة التى تحيطها الشبهات، كانت المفاجأة الحقيقية من بورسعيد التى ما زالت -رغم الجراح والألم- قادرة على تقديم الدروس المضيئة فى أصعب الأوقات.
كان كثيرون يتوقعون أن يكون صدور يوم الحكم فى مجزرة استاد بورسعيد هو يوم الدمار الشامل للمدينة والخطر الداهم على القناة، وكانت كل الشواهد تشير إلى ذلك، فالمشاعر بين أهالى المدينة ملتهبة، والعصيان المدنى مستمر، وقوافل الشهداء لا تنقطع، والصدامات مع الأمن المركزى لا تتوقف، والإحساس بالظلم يتفاقم، وتجاهل الدولة لما يحدث فى المدينة هو فى حد ذاته جريمة فى حق الوطن ودعوة إلى المزيد من اشتعال الموقف.
فى الأيام الأخيرة قبل النطق بالحكم فى القضية، بدا للكثيرين أن المسرح يعد لمذبحة جديدة فى المدينة كما حدث فى 26 يناير الماضى عند إحالة أوراق الممتهمين إلى فضيلة المفتى ثم تغيير مدير الأمن، واستقبلت المدينة حشودًا جديدة من الأمن المركزى، وبدأت على الفور سياسة تصعيد العنف واستخدام الرصاص الحى الذى أسقط فى آخر جولة له شهيدين جديدين ومئات المصابين لتشتعل المشاعر وتقف المدينة على أبواب كارثة جديدة.
مع إصرار المدينة على مقاومة هذا المخطط، ومع جهود قوات الجيش لتهدئة المشاعر، ثم مع بدء عصيان قطاع كبير من ضباط وجنود الشرطة الرافضين توريطهم فى الصدام مع المواطنين أو مع الجيش.. كان لابد من القرار الذى طالت مقاومته، وتولت القوات المسلحة مهمة تأمين مديرية الأمن ومنشآت المدينة الحيوية.. وتسللت قوافل الأمن المركزى إلى مواقعها الأصلية فى المحافظات القريبة مستترة بالظلام أو مستغلة ساعة صلاة الجمعة.
فى اليوم الحاسم، ومع النطق بالحكم كانت المدينة فى قبضة أهلها، وفى حماية الجيش، ومع غياب كامل لباقى السلطات. رغم أن الحكم جاء صادما لهم، فإن أهل المدينة أدركوا أن إنقاذ مدينتهم هو مهمتهم الأولى، وأكدوا إيمانهم بأن القضاء سيصل حتمًا إلى الحقيقة. لم تشتعل المدينة كما كان البعض يخطط! لم يصطدم الجيش بالشعب كما كان المتآمرون يتوهمون! لم تقع المذبحة الجديدة فى بورسعيد، تحملت المدينة جراحها وصمدت.
قلت قبل ذلك إن المدينة التى كانت تضحياتها هى الأساس فى استعادة القناة من مغتصبيها، لا يمكن أن تخون تاريخها.. وها هى ذى تثبت ذلك. تتحمل الجراح وتسمو على الألم، ولكنها تتمسك بحقها فى العدل والكرامة وفى القصاص لشهدائها.
يستمر العصيان المدنى السلمى حتى تتحقق المطالب، تواصل المدينة الباسلة مهمتها الوطنية. تقدم النموذج فى تجديد الثورة. يخاف الفاشيون وأنصار الاستبداد من نموذج بورسعيد كما لا يخافون من أى شىء آخر. يعرفون أن مدن مصر ستتحول كلها إلى بورسعيد. سيواصل الفاشيون وأنصار الاستبداد التآمر على بورسعيد ومحاولة حصارها.. ماذا ستفعل القوى الوطنية لتساعد بورسعيد على الصمود وتساعد الثورة على الانتصار؟ هذا هو السؤال!