صارت أيامنا وأغلب ليالينا ينافس بعضها بعضًا فى الكآبة وحصاد القتل والدم والخراب، وأول من أمس لم يكن استثناءً بل مجرد محطة محزنة جديدة على طريق العبث والفشل والإجرام والعنف الجوال فى دروب وشوارع البلد.
كلنا يعرف مَن الذى جرجرَنا إلى طريق الندامة هذا، ومن الذى أطلق كل تلك الشياطين على بلدنا ومجتمعنا وكيف يحافظ عليها ويرعاها ويستولد المزيد منها يوميا.. إنهم القاعدون حاليا كالجثث على سُدَّة الحكم، فالحقيقة الثابتة أن الحكام والحكومات، عقلا ولغة وبالتعريف، هم من يقودون أى مجتمع، فإما يدفعونه إلى مسار التقدم والنهوض، وإما يبهدلونه ويخسفون به الأرض، لهذا فلا سبيل ولا مهرب أمام الحاكم للهروب من مسؤولية يحتكرها ويحملها على كاهله وحده دون شريك.
طبعا، نحن نسمع الآن قطعان المنافقين النصابين وهم يجاهرون ويتبجحون بعكس هذه الحقيقة فى محاولة غبية وبائسة لإبراء ذمة «جماعة الشر» السرية التى يمسحون بلاطها، من الذنوب والشرور والآثام التى تعصف بالبلاد وتسود عيشة العباد منذ نشلت «جماعتهم» السلطة.. كأن الوظيفة الوحيدة للحاكمين أن يتسلطنوا ويتفرعنوا على خلق الله ويغرفوا من حياة الترف والهناء والنعيم فقط لا غير!
وأعود إلى ما جرى يوم السبت الماضى بعد حكم محكمة جنايات بورسعيد فى قضية مجزرة الاستاد المشهورة، فقد هبَّت عاصفة عنف مروِّع وعبثى تجلت فيه كل عوامل وعناصر الخطر التى بثتها «جماعة الشر» وتوابعها فى مجتمعنا على مدى الزمن الذى مَرَّ علينا ثقيلا طويلا منذ ثورة يناير حتى الآن، ابتداء من الاستخفاف بفكرة دولة القانون والعمل الدؤوب والممنهَج على تدمير أبسط معانيها وتخريب أهم مؤسساتها، ومرورا باختراع وإشاعة وتشجيع وسائل وثقافة عنف منفلت وأهوج لم يترك حرمة ولا نجت منه قيمة أو مبدأ مهما كان نبله وقداسته إذ وصل الاستهتار الإجرامى إلى حد العدوان المتوحش على أبدان الناس (قيام قطعان «الجماعة» بنصب محرقة تعذيب علنية تحت أسوار قصر الاتحادية) وإزهاق أرواحهم.. ثم أخيرا وفوق كل هذا ركام هائل من العربدة السياسية والدستورية مصحوب بفشل ذريع على كل صعيد.
ربما كان شباب ما يسمى جماعة «أولتراس مشجعى النادى الأهلى» هم عنوان أحداث العنف الأهوج التى كابدناها أول من أمس، لكن البيئة السياسية والفكرية والاجتماعية المأزومة المسمومة الحالية التى يتنفس فيها هؤلاء الصغار -معنا جميعا- كانت -لا شك- حاضرة ومؤثرة بقوة فى ارتكاباتهم وسلوكهم الطائش الملامس لحدود الجنون.
ومع ذلك لا يبدو أن الأمر يقف عند هذا الحد، أى التأثير الضارّ للبيئة، فقد لاحظ كثيرون، منهم العبد لله، أن أبواق «جماعة الشر» بما فيها وسائل إعلامهم الرسمية، بدت كأنها راضية عما جرى، إذ تراوحت ردود فعلها على الأحداث ما بين التجاهل التام ونقل أخبار الأحداث بطريقة باردة ومحايدة بما لا يتناسب أبدا مع سخونتها وبشاعتها، فضلًا عن تناقض هذه الطريقة مع عادة تلك الأبواق بينما هى تغطى وتنقل أحداثًا أخرى أقل وأدنى كثيرًا من حرائق يوم الأحد الماضى، وهو أمر يعزِّز الشكوك ويضفى قدرًا معقولًا من المصداقية على معلومات تواترت وتسربت مؤخرا تفيد بأن شخصية قوية ومحورية فى «جماعة الشر» نجحت فى اختراق مجموعات من شباب «الأولتراس» وتمكنت من نسج علاقات مع هذه المجموعات تسمح بتوظيفها واستخدام عنفها العبثى فى ظروف ومناسبات معينة.
وتستطيع أن تضيف إلى الملاحظة السابقة، معلومة خطيرة سمعها العبد لله من زملاء صحفيين عديدين كانوا يغطون أحداث وحرائق الأحد، ملخصها أن شخصًا قريبًا جدًّا من الجماعة وتكرر وجوده (الموثَّق بالصور) ومشاركته فى جرائم «الاتحادية» وحصار المحكمة الدستورية والاعتداء على مقر صحيفة «الوفد»، هذا الشخص كان حاضرا وبارزا بين جموع الحارقين لمقر اتحاد الكرة ونادى ضباط الشرطة فى منطقة الجزيرة!
إذا جمعت الملاحظة الأولى والمعلومة الأخيرة معًا وتأملت قليلًا فى هذا المزيج فلن تجد مهربًا من تخمين أن الست «الجماعة» قد تكون صنعت عمدًا «ليلة كريستال» مصرية جديدة، تشبه تلك «الليلة الألمانية» التى سبق أن حكيت لحضرتك عنها من أسابيع قليلة تعليقا على جريمة «قصر الاتحادية».. لقد قلت وقتها إن الحرائق والخراب وتلال هشيم الزجاج و«الكريتسال» الذى غطى شوارع مدن ألمانية عدة بعد انقضاء ساعات «الليلة المحشورة بين نهاية يوم 9 وصباح يوم 10 نوفمبر عام 1938 يكاد المؤرخون يُجمِعون على اعتباره نقطة انطلاق وتطور حاسمَين فى مسيرة المشروع العنصرى النازى وما رافق هذه المسيرة من عواصف دموية عاتية ضربت ألمانيا ومناطق واسعة من العالم وأطلقت موجات هى الأبشع والأكبر فى التاريخ الإنسانى الحديث من الإرهاب والترويع والحروب وإبادة جماعية رهيبة استهدفت مجموعات وكتلًا بشرية بأكملها، وكان حصادها عشرات ملايين البشر من شتى الأعراق والأجناس والأمم، بل وتدمير ألمانيا نفسها واحتلالها بجيوش الحلفاء الذين دخلوا العاصمة برلين المهدَّمة يوم 9 مايو 1945 قبل أن تُقسَم المدنية وتُشطَر هى والبلد كله إلى دولتين بعاصمتين مختلفتين» لمدة نصف قرن تقريبا.
و… نسأل الله الستر والعفو والرحمة.