لا أجد سببًا لقلق البعض المبالغ فيه ونواح الكثير من الإعلاميين حول الدولة وضياعها وانهيارها وقلقهم البالغ، غير أنهم ناس معفنة.
تغلغل العفن إلى داخلهم وسيطر على أرواحهم حتى جعل منهم كائنات معفنة قذرة، لا تفعل شيئًا سوى النواح وترديد الكلام الذي يروّجه معفنين أكبر في السلطة يبررون جشعهم وفسادهم وغباءهم واستبدادهم بأنه للحفاظ على الأمن القومي ومؤسسات الدولة، بينما مؤسسات تلك الدولة التي وضعت بذرتها طموح عائلة علوية وصممت مؤسساتها تحت إشراف سلطة احتلال إنجليزي، وأعيد تشكيلها لخدمة طموح عسكر ما بعد 52، هي صلب الداء وسر العفن الحقيقي في هذه الأرض.
في 28 يناير 2011 وقعنا جميعًا في خطأ حقيقي، حين ظننا أن المشكلة في النظام الحاكم، والذي قاده جنونه نحو مشروع التوريث والاستحواذ على الثروة إلى التوسع في الفساد، ومن أجل تحقيق هذا المشروع تم تسليم البلد بكل ما فيه إلى الجهات الأمنية التي كانت الحاكم الفعلي في السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك.
أقول وقعنا في الخطأ حين ظننا أن كسر شوكة سلاح مبارك القمعي وأجهزته الأمنية (حرق الأقسام وتأديب الداخلية) وتغيير رؤوس ذلك النظام (عزل مبارك ومحاكمة رؤوس الحزب)، كفيل بفتح المجال أمام هذا المجتمع ليتحرر ويعيد تطهير وهيكلة مؤسسات دولته، وأن بالانتخابات يمكن إعادة ترتيب الأولويات، بحيث يصبح المجتمع الحر القائم على التشارك واحترام الاختلاف والتنوع بين أفراده هو العربة التي تجر الدولة، بدلاً من أن تكون الدولة هي القرد الذي نحمله على أكتافنا ونسير به.
لكن كم كان العمر أخضر؟ كم كنا أبرياء..
خلال عامين، تبدى لنا كيف أن العفن لم يترك أي جزء في مؤسسات تلك الدولة، وأنها ليست دولة بل جثة مُتحللة. القضاء مثلاً الذي كان يرى البعض فيه الحصن الأخير والطاهر، وجدنا كيف أن دعاة استقلاله هم أكثرهم فساداً لا يتورعون عن مخالفة القانون والتحايل عليه لتوريث مناصبهم لأبنائهم وليس لديهم مشكلة في التبجح بإعلان ذلك.
رأينا كيف تحوّل الجيش إلى مؤسسة اقتصادية تدار في الخفاء لا رقابة أو سلطان لأحد عليها، وطموحها الاقتصادي والاستثماري لا يمكن إيقافه حتى لو كان ضحاياه سكان جزيرة بسيطة كجزيرة القرصاية.
تم اقتيادنا من قبل مؤسسات تلك الدولة العفنة كالخراف نحو صناديق الاقتراع. قالوا في الصندوق الحل والمخرج. لم نجد الفيل في الصندوق. أتى طائر وباض علينا وقال أنا أول طائر بريش ومؤخرة منتخب.
وبدلاً من أن يحاول الطائر ذو الريش في المؤخرة البحث عن مخارج وحلول لهيكلة مؤسسات تلك الدولة وإعادة ترتيب أولوياته، بحيث تصبح تلك المؤسسات في خدمة الفرد والمجتمع، يخوض الطائر ذو الريش في المؤخرة مع حلفائه من ذوي الفرو والشعر حربًا ضروس تحت شعار الدستور، ليبقى الوضع على ما هو عليه، بل ليتم التوسع في سلطات وأدوات مؤسسات تلك الدولة القمعية.
أوشك جمال مبارك في أيامه الأخيرة على الوصول إلى صيغة متوازنة، يسلم أجهزة الدولة إلى جهاز أمن الدولة ووزارة حبيب العادلى، ويترك للجيش أراضيه واستثماراتهوينطلق هو وأصدقاؤه ليعيدوا هندسة كل ما له علاقة بالجزء الاقتصادي في قوانين مؤسسات الدولة، بحيث تسمح لهم بالتوحش وأن يسمنوا أكثر فأكثر.
لكن ببساطة، إدارة دولة ومجتمع ليست كإدارة شركة اقتصادية، كما أن مؤسسات تلك الدولة كانت قد وصلت إلى مستوى تفسخ لا يمكن معه أن تستمر، ولهذا كان ما كان.
الآن، يحاول الرئيس مرسي وإخوته وعشيرته خلق نظام جديد، هم لا يريدون أن يكون المجتمع حراً، بل يكفي أن يكونوا هم أحرارًا. يريدون أن تستمر سيطرة مؤسسات الدولة المتعفنة على ذلك المجتمع، لكنهم، في الوقت ذاته، لا يريدون لتلك المؤسسات أن تحكم، بل يريدون أن يحكموا هم من خلال تلك المؤسسات، وذلك دون تقديم أي تنازلات لأي طرف إلا الجيش الطرف الوحيد الذي يخضع ويتنازل الإخوان أمامه حتى آخر قطعة.
لذا، نشأ الصدام الحالي بين مؤسسات الدولة المختلفة وإدارة الرئيس مرسي والإخوان، وهو الصدام الذي كشف إلى أي مدى تلك المؤسسات ليست سوى عصابات لا تفرق كثيرًا عن عصابات الشاطر، ولأي مدى كان البعض مخطئاً حينما هتف في 28 يناير (أسقطوا النظام.. حافظوا على الدولة).
تظن الطوائف المتقاتلة (الإخوان، القضاء، الداخلية، المؤسسة العسكرية، الجهاز البيروقراطي) أن بإمكانها السيطرة على المجتمع، أو أنها تمثل دولة حقيقية، وتستدعي المجتمع بطرق مختلفة في معاركها الحقيرة مع بعضها البعض حول الجثة المتعفنة لتلك الدولة، لكن نحن لا داعي لأن نخوض بأي شكل في تلك المعارك.
لندع الكلاب والضباع تتقاتل على جثة تلك الدولة المتعفنة، ولنصنع مجتمعًا آخر.