كان لدىّ أكثر من سبب للذهاب إلى دار الأوبرا لمشاهدة عرض «الفلامنكو» الإسبانى، ربما تعتبرنى من «الناس الرايقة اللى بتضحك على طول» والمنعزلين عما يجرى فى أوطانهم، دعنى أقل لك إن ممارسة الحياة الطبيعية هى إحدى أسلحة المقاومة ضد من يريدون شرا بالوطن، من يسعون حثيثا لإطفاء الضوء وإشعال الحرائق نواجههم بمزيد من المصابيح. هم يقذفوننا بقنابل مسيلة للدموع ورصاص يفقأ العيون ونرد عليهم بقذائف مذيبة لمشاعر البغضاء مكوَّنة من عناصر الموسيقى والغناء والتمثيل والأدب والرقص.
كان لدىّ أيضا هدف شخصى وهو أن أزور دار الأوبرا التى كانت هى البيت الحقيقى لفنان الباليه الراحل عبد المنعم كامل، كانت هذه الدار على مدى تجاوز 45 عاما هى بيته، فلقد انتقل إليها من دار الأوبرا التى أحرقوها بعد هزيمة 67.
عندما تولى عبد المنعم كامل مسؤولية القيادة لم أره يغيب عن أى عرض، وعندما بلغ سن التقاعد كان دائما فى المسرح متابعا لكل الأنشطة، آخر مرة رأيته قبل أسبوعين فقط فى حفل باليه «بحيرة البجع» الذى يشرف فنيا عليه، كان المرض اللعين قد نال منه تماما ولكنه كعادته صعد إلى خشبة المسرح وتماسك وتحرك برشاقة، وتعمدت أن أغادر موقعى وأتقدم خطوات أكثر للمسرح وأنا أصفق له، وبعدها بأيام قليلة وهو يجرى بروفات نهائية للعرض فاضت روحه. كأنه يختار مكان وداعه. أمثال عبد المنعم كامل لا تودعهم فى سرادق ولكن تلتقى بهم مجددا فى الأماكن التى أحبوها فتشعر أنهم بيننا أحياء يرزقون ويبدعون. لم ألتق على المستوى الشخصى كثيرا بهذا الفنان الاستثنائى، ولكننا اجتمعنا فى رحلة سفر واحدة إلى الأردن قبل 10 سنوات، حيث كانت الفرقة المصرية تشارك فى مهرجان «جرش» تلك المدينة التاريخية التى تقع بالقرب من العاصمة عمان، واكتشفت أن هذا الفنان لا يتوقف عن شرب السجائر وفى العشاء يتناول صينية كاملة مكرونة بالباشامل، إلا أن سر الرشاقة أنه لا يتوقف عن التدريب حتى ولو كان بحكم السن قد توقف عن ممارسة الرقص أمام الجمهور، ولاحظت أن تدخين السجائر بشراهة يستشرى بين أغلب أعضاء الفريق المصرى.
أتذكره جيدا طوال رحلته كمسؤول عن الأوبرا، حيث إنه قبل بداية العرض يحرص على أن يوجد فى مركز الدخول على البوابة الرئيسة ليرحب بضيوف الأوبرا، وبعد نهاية العرض يسارع بأن يقف فى نفس المكان مودعا ضيوفه، هذه المرة شعرت بأن روح هذا الفنان لم تغادر الدار.
عرض «الفلامنكو» لديه سحر خاص للمصريين بتلك الموسيقى والإيقاعات المحببة والمليئة بالقوة والعنفوان، التى كما تقول الموسوعة العلمية تمتد إلى عمق الجذور الشرقية والعربية. و«الجيتار» الإسبانى هو أحد التنويعات الموسيقية لآلة العود الذى هو بمثابة العميد للآلات الشرقية، كما أن هذه الموسيقى تجد لها صدى فى شمال إفريقيا خصوصا فى مدينتى طنجة وتطوان بالمغرب.
الأوبرا فى بؤرة النضال، صحيح إن الوصول إليها بات صعبا سواء قررت أن تذهب إليها عن طريق التحرير أو الجيزة، فإن الأمر يخضع بالتأكيد لمغامرة كُبرى، لأن حركة المرور شبه متوقفة، ورغم ذلك وجدت أن الصالة امتلأت والعرض يمتد ساعة ونصف بلا استراحة. الجمهور المصرى يصفق بحرارة لتلك الفرقة التى تتكون من ستة أفراد بقيادة خوسيه باريوس، فهو يصمم الرقصات ويقود الفرقة، ويقول فى تعريف نفسه ولإلقاء الضوء على مفتاح هذا العرض الذى يتكون من عدة مقاطع «تلقيت حين ولدت لطمتين جعلتانى أبكى، وضمن أسباب أخرى كافأت نفسى بابتسامة عن كل ما يشعرنى بالألم، لأنه من الصعب أن أحزن، فأنا أرفض أن أنظر إلى أسفل، أريد أن أكبر وأزداد قوة ضد الشدائد، فالألم يجرح ولكنه لا يقتل، الذاكرة تؤلم ولكن لها لذّاتها، الحياة تؤلم ولكن لها جمالها، وحتى فى هذه الحالات أتطلع صارخا بصوت عال وواضح وسط هذه البيئة الصاخبة والمرحة، فأنا أرفض التوقف عن الضحك».
الجمهور جزء حميم فى هذه الحالة، بل إنك لا يمكن أن تتخيل فرقة تغنى وترقص لنفسها، فهم ينتعشون بالناس وبالدفء والحميمية، وهذه لو تعلمون واحدة من أمضَى أسلحة المقاومة لدعاة دولة الظلم والظلام!!