أحلى ما فى المهنى ليست الكتابة نفسها، ولكن اللحظات التى تسبقها، والتى يطلق عليها العامة لحظات (التحويق والتلويق)، يحوق الواحد ويلوق فى مدارات مختلفة، تاركًا الفرصة للأفكار حتى تنضج، تتسع دائرة التحويق والتلويق، فتبدأ من المطبخ بتفعيل حاسة الشم بأن يفتح الواحد برطمان البن، ليدفس فيه أنفه راسمًا خيالات ذهبية لفنجان القهوة المتوقع، وتمر بالعبث فى مؤشر الراديو لتفعيل حاسة السمع بحثًا عن جملة شاردة فى أغنية نصف مألوفة يمكن اعتبارها اكتشافًا يستحق أن تتيه به فخرًا على أصدقائك، مرورًا بالتفاعل داخل المنطقة التى يتقاطع فيها عالمك الخاص مع الكوكب (البلكونة)، فتفعل حاسة اللمس بمحاولات طفولية لحجب أشعة الشمس عن عينيك أو ربما للمرور بأناملك على وجه القمر لاكتشاف سر توهجه، نهاية بوقوفك فى الحمام تهرش فى رأسك وتحملق فى السقف على هامش تفعيل حاسة الإخراج، محاولًا تقليب الفكرة فى ذهنك يمينًا ويسارًا لتحدد إن كانت نضجت أم لسه شوية.
فى هذه الأثناء تأتى الأفكار وتروح، تتخلّى بسهولة عن الأفكار التى لا تقدر أن توفر لها كل المقادير المطلوبة حتى تخرج مضبوطة، أفكّر مثلًا أن رجال النظام السابق المحبوسين منحهم الله فرصة كاملة حتى يحسنوا خاتمتهم، فنزعهم من بحور السلطة والفساد وحبسهم فى ابتلاء السجن والمرض، وهكذا يتطهّر الإنسان فيلقى ربه فى وضعية أفضل مما سبق، فى المقابل تبدو خاتمة رجال النظام الجديد أسوأ كثيرًا إذ نزعهم الله من حياة بسيطة وألقى بهم فى فتنة الحكم والسلطة والظلم والدم، قد تنتهى حياة وزير داخلية مجرم على سجادة الصلاة أو ممسكًا بالمصحف وتنتهى حياة رجل ملتزم دينيًّا ومنزله محاصر بأهالى من فقدوا أبناءهم برصاص قواته، الفكرة تدخل تحت بند (السبحانيات)، ولأنها -من أولها لآخرها- تدخل فى علم الغيب والنيّات وإرادة الله، فلا يملك الواحد أن يقول عنها إنها فكرة سليمة وناضجة، ولا يمكن اعتبار خلاصتها إجابة نهائية صحيحة.
أفكر مثلًا فى أن النظام الحاكم فى حاجة ماسة إلى جبهة الإنقاذ، وأنه يستعين بها لفرض سيطرة أكبر، لا بد من جهة يتم تحميلها مسؤولية الخراب أو على الأقل اقتسام المسؤولية معها لتخفيف الحمل، وفكّر معى كيف أن النظام الحاكم ورجاله يعايرون الجبهة دائمًا بأنها لا وجود لها فى الشارع، وأنها تخشى المنافسة فى الانتخابات، لأنها فاشلة، وأنها تهرب من الانتخابات، لأنها تخشى الفضيحة، يعنى تقريبًا فى رأى النظام تبدو الجبهة بلا أى (لازمة) وغير مؤثّرة تقريبًا، ومع ذلك فى لحظة أخرى تبدو الجبهة، حسب تصريحات النظام نفسه، سبب الفوضى، وأنها الغطاء السياسى للعصيان والفوضى، متى يثبت النظام على رأى واحد فى الجبهة؟ لن يحدث أبدًا، لأن فكرة التعامل مع المعارضة لم تنضج بعد فى خيال النظام.
أفكار كثيرة تصحو وتهبط بينما موعد تسليم المقال يقترب، وفى أثناء غسل فنجان القهوة تهبط الصورة واضحة وكاملة، لكنها مشوّشة أيضًا، فالمطبخ هو وطن المرأة، ومع ذلك فأشهر طهاة العالم رجال، أقول (رجال المطبخ)، فأرى حشدًا من طهاة فندق سميراميس (الرجالة) بزى المطبخ الأبيض وبطرطور الطهى (الذى يرتدونه لمنع تساقط الشعر فى الطعام فى أثناء الطهى، مع أن معظمهم صلع، بينما ذوات الشعر الطويل فى كل بيت لا يرتدينه)، المهم.. رأيت طهاة فندق سميراميس يصطفون على الكورنيش أمام أبواب الفندق حاملين سكاكين المطبخ والسواطير وعصيان فرد الفطائر، مدافعين عن وطنهم الصغير أمام اللصوص والبلطجية، مشهد يلخّص ما يريد الواحد أن يقوله كل يوم، طاقم طهاة الفندق لا بد أن بينهم مسلمًا ومسيحيًّا، مؤيدًا للإخوان ورافضًا لهم، ثوريًّا وفلولًا، مقاطعًا للاستفتاء ومشاركًا فيه، شابًّا مبتدئًا وخبيرًا فى المهنة، مصر بكل أطيافها تقف فى مطبخ هذا الفندق الكبير الذى تعرّض للإغلاق منذ أسابيع، لكنهم بمنتهى الإخلاص أعادوا افتتاحه، وعندما هجم عليهم مَن لا يريد أن تقوم للفندق قائمة من جديد، اعتبر الطهاة أن هذا الموضوع مسألة حياة أو موت، فخرجوا يدافعون بطراطير الطهى وأسلحتهم البدائية عن وطنهم الصغير، لحظة استفاقة توحّدت فيها الجهود وذابت فيها الاختلافات، فنجحوا فى مهتهم نجاحًا ساحقًا، متى نخاف على الفندق الذى نعيش فيه؟ متى يهب الناس كما هب (رجالة بطراطير) بدلًا من عمر يضيع ونحن نرى (طراطير) ولا (رجالة).
تحية للعاملين فى فندق سميراميس، وإن كنت أود أن أسأل طاقم الطهاة (كنتوا طابخين إيه فى اليوم التاريخى ده؟).