فى الطرف الأخير لقريتنا حكاية تُروى عن ذلك البيت الوسيع الذى أناخ عليه الدهر، وتلك الجميزة الوارفة التى كانت تبدو غابة كاملة، والآن قد سكنها البوم، وانقطعت ثمارها، وهزت الرياح أفرعها بقسوة حتى صارت جرداء إلا من بعض أوراق تدل على أيام مجدها الغابر.
البيت والشجرة كانا لعائلة لا أحد يعلم منبع ثروتها على وجه اليقين، فهناك من يتحدث عن سرقة كبيرة أطلقت لها رحلة التمكين، وهناك من يقول: كانوا بارعين فى تربية الجاموس والبغال، ومن عمليات بيع وشراء تتابعت كأيام السنة امتلأت القدور بالمال، فاشتروا الأرض وبنوا الدور العالية الوسيعة، وذهبوا إلى صاحب السلطان يطلبون العُمدية فمنحهم إياها.
فى طفولتى رأيت عمدتهم قبل الأخير، كان رجلاً فارع الطول ذا وجه مثلثى، يمشى الهوينى، ولا يلقى السلام على أحد، وحين تراه النساء يسحبن أغطية الرأس على وجوههن فى خفر، ثم يختبئن فى أى جحر يتهادى أمامهن. أما الرجال فيقفون متطلعين إليه كى يحييهم، بلا جدوى، والراكب منهم يترجل، ويجر الحمار وراءه، ثم يسرع الخطى مبتعداً عن مسار العمدة. وفى المواسم يأتى إليه التجار من البندر يتسابقون على محاصيل أرضه، والغلال التى جمعها هو من الفلاحين بثمن زهيد.
أما أخوه الأصغر فكان على النقيض من ذلك. ربعة وذو وجه مستدير عبوس وأنف أفطس قليلاً، ما إن يظهر فى الشارع حتى تغلق النساء الدور، بعد ما وصلتهن أطراف أخبار عن شهوانيته. وحين يجلس إلى الطعام يأكل بأصابعه العشرة، ولا يقيم علاقة إنسانية مع أى كائن سوى بغله، الذى يتخالط فى شعره الأبيض والأسود والرمادى، ويرمى سيقانه نحو الفراغ وهى تجرى تدك الأرض، غير عابئ بالأطفال المنزلقين من عتبات المنازل إلى أنهار الشوارع الضيقة.
ويراه الناس فوق بغله فيهمسون:
ـ يتشابهان فى العناد والعقم والشحيج والرفس.
ويوم أن مات أخوه الأكبر لم يذهب خلف الجنازة، إنما جلس مكانه على الكرسى، ونظر إلى كل من حوله والدهشة تعلو وجوههم، وأطلق ضحكة طويلة رقيعة، ثم طلب أن يأتيه شيخ الخفر على عجل. ولما أتاه يلهث، ووقف أمامه وفى عينيه انكسار، نظر إليه بتبلد شديد، ثم صرخ فيه:
ـ اجمع الخفر.
ولاذ الرجل بالصمت، ودخل فى نفسه، ولم يجد رداً، بل صدرت عنه همهمات انداحت فى آذان الواقفين غمغمة مكتومة، ثم استدار وذهب لينفذ ما أُمر به، لكن الجالس على الكرسى صرخ فيه:
ـ لا تعطنى ظهرك وأنت تخرج.
فالتفت إليه، بعد أن فاض به الكيل، وسأله فى صوت خفيض:
ـ لحم أخيك طرى فى تربته، والحكومة لم تعين عمدة بعده.
عندها قهقه، ثم زمّ شفتيه، وداس على ما بقى من أضراسه، وصرخ فيه:
ـ أنا العمدة.. هذه مسألة محسومة.
وجاء القرار الإدارى فعلاً بتعيينه مكان أخيه، فركب البغل، وتجول فى كل شوارع القرية وحواريها، وأمر الناس بأن يتركوا البيوت مفتوحة، وأن تزغرد النساء فرحاً بقدومه، ويرقص الرجال، ويهلل الأطفال. اغتصب الأفراح فى كل الأرجاء، ورفع بوزه فى وجه الناس، ولم يُلقِ السلام على أحد. وبينما الناس يتراقصون ألماً جاء المأمور على حصان بنى، فلما رآه راكباً البغل نزل سريعاً، وجرى إليه، ووقف عند قدميه وقال:
ـ بلدنا نورت يا سعادة البيه.
ثم تطلع إليه ليلتقط كل حرف يتساقط من شفتيه، لكنه فوجئ به يسأله:
ـ كيف أخبار البغل يا عمدة؟
ـ بخير يا أفندم.
فضحك المأمور وقال:
ـ لو الأمر بيدى لعينته مكانك.
ولسعه الكلام، لكنه لم يجرؤ على الرد. ورأه المأمور يتضاءل أمامه فأشفق عليه، وحكى له أمام الناس عن الإمبراطور الرومانى كاليجولا، الذى عيّن حصانه فى مجلس الشيوخ وأجبر أعضاءه على أن يأكلوا التبن مثله. ثم ضحك المأمور وأنشد يقول:
فأوصيكم بالبغل شراً فإنه
من العير فى سوء الطباع قريب
وكيف يجىءُ البغلُ يوماً بحاجة
تسرّ وفيه للحمار نصيب؟
وما إن انصرف المأمور حتى انشغل العمدة الجديد بالأمر، وعاش أياماً شارداً، قلّ فيها طعامه وزاد إقباله على التدخين واحتساء الخمر، وانعزل أياماً عن أهله وعشيرته حتى ظنوا أنه قد مسّه الجنون. لكن شكوكهم تأكدت تماماً حين وجدوه ذات صباح قد وضع عمامة كبيرة على رأس البغل، ولفّه فى ثوب كبير من الحرير الأخضر، ثم سحبه نحو كرسيه العريض، ودفعه برفق وهو يطيعه حتى استقرت مؤخرته فوق الكرسى، وأشاح برأسه فى وجوه الواقفين، ثم جلس تحته وراح يقول لهم:
- تقدموا لتبايعوا حضرة العمدة الجديد.