يزعجونك هذه الأيام بالثرثرة حول تعبير النخبة، كل فلوطة يطلع يتهم النخبة بأنها ضعيفة وتبحث عن مصالحها أو أنها بتغرّق البلد أو بتاعة فضائيات وفقط، هذا كلام جميل جدا وفارغ تماما.
الصحيح أن النخبة هى التى فجّرت ثورة يناير، فهى التى كتبت ونشرت وأذاعت وخطبت وتظاهرت فى الشوارع واجتمعت فى المؤتمرات ووقّعت على البيانات وكشفت وفضحت الديكتاتورية واتجرجرت على النيابات والمحاكم وعلّمت أجيالا وكانت قدوة ونموذجا وأسطوات سياسة للشباب، ولو رجعت إلى الوراء ستجد فى كل عصر نخبته المحرِّكة المحرِّضة المؤثِّرة.
لكن لكل نخبة عيوبها ونقائصها.
وفى كل نخبة ناس محترمة ونفوس راقية وكذلك ناس ولاد كلب ونفوس وضيعة.
عادى يعنى، فما المفاجأة فى هذا التعدد والتنوع.
نحن بشر وتلك إنسانيتنا وهذا تاريخنا فلماذا لا يكون حاضرنا كذلك؟
كان العرب أول من اخترع فى التاريخ حاجة اسمها علم الرجال، مثل علم النحو أو علم الأحياء والفيزياء، ووضعوا عِلمًا له قواعد ومعايير وضوابط من أجل فهم هل هذا الرجل اللى عامل فيها رجلا، وراسم فيها العِلم والفقه والثقافة والمبادئ رجل بجد، يعنى يفعل ما يقول ويُظهر ما يُبطن أم أنه راجل لا مؤاخذة فى ثقافته ومواقفه ودينه، ومن هنا طبّقوا هذه القواعد التى أطلقوا عليها علم الجَرْح والتعديل أو علم الرجال على رواة الحديث النبوى، كى يتأكدوا من أن رواة الأحاديث ناس محترمة وفاضلة أم أنهم شخصيات غير مؤتمَنة على الرواية والإسناد، لكن تطبيق هذا العلم شابته مغالطات وأخطاء طبعا ودخلت فيه الأحقاد والتحاسد والإحن والتنافس، وما إلى ذلك من أمراض الواقع العربى السقيمة، لكن يبدو أن كثيرين فى مصر تميزوا بأنهم لا يطيقون علم الرجال ولا الرجال اللى بجد، وموتهم وسمّهم أن يخلَصوا من الرجال حتى يبقى على الأرض شرار الناس وإمَّعات البشر وخيخة الرجالة، شوف مثلا الدكتور جمال حمدان وهو يؤكد فى كتابه الأعظم «شخصية مصر» (المجلد الرابع صفحة 539-540، طبعة دار الهلال): «واحد من أخطر عيوب مصر هى أنها تسمح للرجل العادى المتوسط بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغى وتفسح له مكانا أكبر مما يستحق، الأمر الذى يؤدى إلى الركود والتخلف وأحيانا العجز والفشل والإحباط... ففى حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير إلى القمىء فإنها على العكس تضيق أشد الضيق بالرجل الممتاز... فشرط النجاح والبقاء فى مصر أن تكون اتّباعيا لا ابتداعيا، تابعا لا رائدا، محافظا لا ثوريا، تقليديا لا مخالفا ومواليا لا معارضا... وهكذا بينما تتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها تتعثر أقدامها فى العمالقة وقد تطؤهم وطئا» ما يقوله العملاق جمال حمدان الذى داست أقدام مصر الثقيلة وبيادتها السوداء عليه يجعلك تصدّق الموال العبقرى الذى يقول صاحبه بمنتهى الأريحية على اعتبار أنه جاب التايهة:
حكمت يا زمان وحكمك على ولاد الأصول يمشى
واللى يقول الحق فى الزمان ده لازم مِ البلاد يمشى
يمشى بقى أو يخرس أو يتسجن أو يروح فى داهية.