ما أبعد الليلة عن البارحة، الليلة هو ما يجرى الآن على مواقع التواصل الاجتماعى من خلال تلك الدعوات المنتشرة التى ترفض استقبال الموسيقار زياد رحبانى فى ختام حفل موسيقى الجاز الخامس المزمع إقامته يوم 23 مارس بحديقة الأزهر، هذا عن الليلة أما البارحة فإنها تلك التى حدثت قبل ثلاث سنوات عندما جاء زياد لأول مرة إلى مصر، وطالب وقتها الشاعر أحمد فؤاد نجم بمنحه الجنسية المصرية ولاقت هذه الدعوة تهافت وترحاب المصريين.
كان هناك فيض من المشاعر الدافئة أحاطت هذا الفنان المبدع الذى يمتلك بإحساسه الفياض الكثير من أسرار الموسيقى، لعبت جينات الرحبانية دورها من خلال والده عاصى، كما أن فيروز الأم أكملت دور علم الوراثة لنجد أمامنا فنانا يحمل جذورا إبداعية ونبضا عصريا فرض نفسه مع رائعته لفيروز «كيفك أنت».
فى حفله الذى أحياه فى أثناء زيارته للقاهرة فى ساقية الصاوى ضاق المكان عن عشاق موسيقاه وأغنياته، ولم يعتقد أحد أن لزياد كل هذا الحضور بين المصريين.
جاءت ثورات الربيع العربى وظل الشأن السورى مستعصيا عن الحل، طال الصراع الدموى أكثر مما يمكن أن تحتمله الضمائر والقلوب، يجب أن نعترف أن قطار الثورة المنطلق أعاقه الأسد الصغير فى سوريا. الشأن اللبنانى ليس بعيدا عما يجرى فى سوريا، إلى عهد قريب كان الأسد الأب يعتبر لبنان امتدادا له وكانت صورته الضخمة فى المطار الدولى اللبنانى لا تعنى سوى الخضوع، تحرر لبنان من الهيمنة الرسمية السورية، ولكن تبقى بعض الولاءات، خصوصا أن قبضة الأمن خلال 30 عاما لا تستطيع أن تضبط الشارع، كما أن قبضة الجيش لا تسيطر على الحدود فى وجود القوة العسكرية لحزب الله وتحديدا على الحدود الجنوبية فى مواجهة إسرائيل.
زياد لم يقف على الحياد بين الثورة وبشار واختار بشار، كيف يختار الديكتاتور؟ يجب أن نعترف أن هناك تخوفا لدى كل القوى الليبرالية فى العالم العربى من سيطرة التيار الإسلامى المتشدد على مقاليد الحكم، وهو ما رأيناه فى تونس وليبيا ومصر، وهذا التيار الذى يعادى بطبعه الحريات يدفع البعض إلى الوقوف على الشاطئ الآخر. أن ينتصر بشار فى نهاية المشوار هذا هو المستحيل، ولكن الثورة أيضا لا تملك الحسم، ولهذا فإن أوصال سوريا تتمزق بين الجميع، زياد مثل قطاع من الفنانين خوفهم من التيار الإسلامى الذى وضع أمامه خطة واحدة وهى التمكين، يجعله يفكر ألف مرة فى هاجس الخوف على المستقبل لو جاء هذا التيار إلى كرسى السلطة. الحرب الطائفية التى اندلعت فى منتصف السبعينيات ضربت بغشومية الأمن فى كل المواقع اللبنانية بين المارونى والشيعى والسنى والدرزى والكاثوليكى، هذه التقسيمة عالجت الطائفية بطائفية سياسية يتم من خلالها توزيع المناصب فى البلد. زياد ليس مثل فيروز التى ترفض أن تدلى بأى حوار يشى برأى، ولو راجعت حتى أحاديثها الفنية على ندرتها لن تجد سوى آراء محايدة تحمل فى مجملها ثناء على الجميع، إلا أنها فى كل الأحوال لا تتورط فى إبداء رأى خاص، زياد يعلن دائما آراءه السياسية ولهذا يقف منه الجمهور بين التأييد والاستهجان.
فيروز انقطعت 20 عاما عن الغناء فى سوريا، لكنها عادت عام 2008 وعرضت مسرحيتها «صح النوم» لمدة 6 ليال، وخرجت قبل الحفل العديد من الأصوات اللبنانية تطلب من فيروز أن لا تغنى فى دمشق، لأنه لا يزال فى الصدور غضب من سوريا الأسد، ولكن فيروز ذهبت ومعها زياد، إنها إحدى أيقونات العرب جميعا وفى سوريا كما فى لبنان لها مكانة الملائكة فى السماء، والملائكة تحتضن الجميع.
زياد لا يمثل جهازا تابعا للأسد ولا هو بوق دعاية له، عندما ترفض مهرجانات سينمائية عربية مثلا عرض الفيلم السورى «العاشق» فإنها توجه ضربة موجعة للأسد، لأن الفيلم إنتاج مؤسسة تابعة للنظام، وهى إحدى أذرع الأسد فى السيطرة على الفنانين والمثقفين سواء بالاحتواء أو الإقصاء، ولكن مع زياد أرى أن من حقه أن يشارك فى حفل حديقة الأزهر ومن حق الجماهير أن تعلن فى أثناء الحفل رفضها آراءه السياسية.
الفنان يقف على يسار النظام ليصبح نبضه هو المعبر عن الشارع، والثورة هى نبض الناس. نعم ما أبعد الليلة عن البارحة، قبل ثلاث سنوات كان فى حدقة العيون ودفء القلوب، هذه المرة لم ترحب به العيون وتجمدت معه مشاعر العديد من القلوب.