كان باولو كويلو يجلس إلى مكتبه فى غرفته الواسعة جدا الخالية تماما من كل شىء فيما عدا مكتبًا صغيرًا إلى جوار نافذة كبيرة تطل على المحيط الأطلنطى ومقعدين ومكتبة بعرض الحائط. كنت قبل وصولى إلى البرازيل فى آخر شهور التسعينيات أفكّر فى عمل عدة حوارات صحفية فى مقدمتها حوار مع اللاعب الشهير وقتها روماريو، لم يكن أهمّ أبناء جيله لكنه كان النجم الوحيد الذى لم يغادر البرازيل ليلعب خارجها، وحوار آخر مع باولو كويلو الكاتب الأكثر مبيعا، طلب روماريو خمسة آلاف دولار فى حوار لا يزيد على عشر دقائق، أما كويلو فقد أخبر سكرتير السفارة المصرية الذى اتصل به أنه موجود كل يوم فى البيت من التاسعة صباحا حتى غروب الشمس لمدة ثلاثة أسابيع قادمة.
كان كويلو فرحًا بأن كاتبًا مصريًّا يزوره فى بيته فى الجانب الآخر من العالم، انفتحت شهيته للحكى والقهوة والدخان، وقال لى:
«نشأتُ فى عائلة متوسطة المستوى.. كانت تحلم بأن يدرس أكبر أبنائها الهندسة.. لكن كان لدىّ الحلم منذ الصغر بأن أصبح كاتبًا، لكن عندما صارحت أمى برغبتى فى احتراف الكتابة قالت لى إن احتراف هذه المهنة يلزمه شروط صعبة للغاية ومواصفات خاصة لا تتوافر فىّ، وبالتالى فإننى إذا أصبحت كاتبًا فسأكون كاتبًا فاشلًا.
التحقت بمدرسة الحقوق فى منتصف السينيات، وبدأت أهتمّ بالسفر والترحال داخل وخارج البرازيل.. وبدأت اهتمّ بمقابلة الناس فى كل مكان، وقد اخترت السفر بالوسائل الرخيصة لما فيها من خبرة نتيجة الاحتكاك بأنماط بشرية متنوعة.
عدت إلى البرازيل مع بداية السبعينيات.. وبدأت أفكِّر فى احتراف ما أحبه (الفن والكتابة).. فعملت فى إحدى الصحف البرازيلية.. ثم تعرفت إلى مطرب ومنتج فنى.. وبدأت أكتب أغانى.. وحقَّقَت أول أغنية كتبتها جماهيرية هائلة، لكن الحكومة اعتبرت الأغنية مخالفة للنظام وتحضّ على الثورة، وبناءً عليه قُبض على وأُودِعتُ السجنَ أكثر من مرة.
عندما خرجت من السجن بعد المرة الثالثة، قلت يكفى هذا القدر من الجنون، لقد مارست كل أنواع الجنون التى يستطيع الإنسان أن يمارسها طوال حياته.. مارست كل ما هو مسموح وما هو ممنوع فى فترة عمرية قصيرة جدًّا.
قررت أن أصبح إنسانًا عاديًّا.. بحثت عن وظيفة. التحقت فى البداية بالعمل فى شركة (بولى جرام) كبرى شركات الكاسيت فى البرازيل، طوال هذه الفترة لم يفارقنى حلمى القديم بامتهان الكتابة.. لكن لأننى كنت أحب أمى بشدة كنت أتخلص من هواجس هذا الحلم كلما راودنى لأنها كانت مقتنعة بأننى سأصبح كاتبًا فاشلًا!
لكن دون مقدِّمات قررت أن أمنح حلمى القديم فرصة أخرى..
قبل أن أكتب (ساحر الصحراء) زُرتُ القاهرة... ذهبت بمفردى ولم أكن أعرف شخصا واحدًا هناك.
التقيت شابًّا اسمه حسان، وطلبت منه أن يكون مرشدى فى هذه الرحلة.. وبدأ يقودنى فى رحلات داخل القاهرة إلى مناطق لم أسمع عنها من قبل.. ذهبتُ إلى الأهرام فى اليوم الأول فوجدتها مزدحمة بالسياح وبها عدد هائل من البشر منعنى من لمس جماليات المكان، فقلت لحسان (أريد أن أذهب إلى الصحراء).. فذهبنا بالجِمال.. وسرنا فى الصحراء مسافة طويلة حتى وصلنا إلى تلّ عالٍ وقفتُ فوقه فشاهدت الأهرام فى منظر عامّ.. حدث هذا فى ليلة مُقمِرة، وكانت أشعَّة نور القمر تغمر المنطقة، وخلف الأهرام كانت أنوار القاهرة تسطع وتتلألأ، وكدتُ يُغشَى علىّ من سحر المنظر ورهبته.. وشعرت بالحيرة الكاملة والاضطراب الشامل، أذكر أننى قد جلست على ركبتى منهارا.. ووضعت يدَىّ على الأرض فأمسكت بـ(جعران).
كانت لحظة رهيبة فى حياتى كلما تذكرتها سَرَت القُشَعْريرة فى جسدى.
فى الطريق طلبتُ منه أن يقرأ القرآن بصوت عالٍ وبالطريقة التى استمع إليها فى مصر وهى تكاد تكون مغنَّاة.. فقرأ لى (الفاتحة)، وعندما طلبتُ منه أن يترجم لى معناها، وجدته يدعو الله أن يهدينا الصراط المستقيم.. وهو الطريق الذى يسير عليه أولئك الذين أحبهم الله.
فى العام التالى كتبتُ روايتى الأهم (ساحر الصحراء)، وكتبتُ فيها هذا المشهد بتفاصيله ووضعت راعى الأغنام (بطل الرواية) مكانى. نجحت الرواية لأننى كنت بطلها.. أو على الأقل أشبه بطلها راعى الأغنام فى أشياء كثيرة.. أهمها شعوره الدائم بحلم قديم لا بد أن يحققه.. فيحققه رغم أنه فى كل مرة يمشى خطوة فى اتجاه تحقيق الحلم تأخذه الدنيا لطرق أخرى جانبية.. لكنه يعود بعد فترة إلى الطريق الرئيسى.
الفلسفة نفسها التى تدعو إليها الآية الكريمة (اهدِنا الصراط المستقيم).. وقد أصبحت هذه الآية هى دعائى اليومى المفضل».
قال كويلو: «الأساطير والخيال هى الطريقة التى أعبر بها عن نفسى.. وهى الطريقة التى أتحدث بها إلى الطفل القابع داخلى، عندما سافرت من نيويورك إلى المكسيك لم أكن أتحدث الإنجليزية لكننى قمت بسفر ناجح لوجود لغة إحساس بين الناس أقوى من لغة التخاطب العادية.
أحب هذه اللغة لأنها لغة شعبية.. وأنا أومن بأن الله قد خلق الفنانين من أجل أن يعملوا على خلق لغة تكاد تكون واحدة ومشتركة بين كل الشعوب.
وفى محاولة لمخاطبة الروح (روحى قبل أرواح الآخرين) أحببت هذه اللغة.. لذلك فإننى عندما أكتب فأنا أفهم نفسى قبل أن أفهم معطيات الحياة.
وعندما أكتب أحاول أن أكون بسيطًا ومباشرًا دون أن أفقد جماليات اللغة ورصانتها وقيمتها.
حب الناس أنقذنى من الجنون والإحباط، لقد اكتشفت أن الكاتب شخص وحيد للغاية.. فرغم أننى معروف من قِبَل 80 مليون قارئ فى كل العالم فإن عدد أصدقائى لم يتغير، بل فى تناقص مستمر بسبب الموت، لذلك سجّلت عنوانى على كل مطبوعاتى حتى أتسلم رسائل من القراء.. وبالفعل تسملت رسائل مُفعَمة بالحب تؤمِّن حياتى النفسية، أقول للقراء: لولا محبتكم لاندثرَت تلك المهنة، فهى لا تَعِدُ الكاتب بشىء سوى المحبة».