السلطات المستبدة عدوها الأول الذكاء لا الصوت العالى. تعرفين أن هتلر نفسه كان يسمح بالمعارضة، فى سياسة سماها جوبلز: «حرية الصريخ». حرية الاعتراض الذى لا محل له من الإعراب، ولا هدف له، ولا منهج. اعتراض قوى وجارف كثور، لكنه غبى مثله. والأمم المستبدة مليئة من ثم بهذا النوع من المعارضين، الذين يرددون مرة بعد مرة الأقوال المأثورة من كتب الحكمة، لكنها فى الغالب حق يراد به لا شىء.
لماذا يتحمل أصحاب «الجلد التخين» كل الاعتراضات ويعرفون كيف يتعاملون معها، لكنهم يتوقفون عاجزين أمام باسم يوسف؟ بسبب الذكاء الحاد. ليس الذكاء يا صديقتى ما نحتاج إليه فى هذا التوقيت، إنما الذكاء الحاد. القدرة على التمييز الجراحى بين المتشابهات، وإلا ضرب المشرط فى الوتر الخطأ، والشريان الخطأ، والوريد الخطأ، والعصب الخطأ، وضاعت المريضة، ضاعت البلد.
الذكاء الحاد يعلم أن تقديم عشرة جرامات من الذهب وسط قنطار من التبن، ليس هدية، بل مكيدة، غرضها ليس إهداء الذهب، بل إن هدفها إخفاؤه. كم من المعارضين فى مصر يفعلون ذلك، فإن اعترضتِ بحثوا فى مقالاتهم وجاؤوا لك بجملة تائهة هنا وهناك قالوا فيها الذهب.
المهم إننى لا أحرص على مشاهدة أى برنامج تليفزيونى مصرى إلا برنامج باسم يوسف، لست على استعداد لإضاعة ساعتين من وقتى فى كلام مكرر، ولا حتى فى الحق المكرر، ثم إنى معنديش تليفزيون (عادل إمام)، وأشاهد البرنامج على النت، وما هذا إلا لأن باسم يوسف يحترم عقولنا، وفريقه الرائع خلف الكاميرات يحترم عقولنا. وأنا واثق أن هذا السكريبت الذى يمر علينا فى ساعة، بذل فيه من الجهد عشرات أضعاف وقته، لأن الكتابة نحت، ومحو، وتكثيف وتقطير. هذا فقط ينقلها من خانة «اللكلك لكلك» إلى خانة الكلام ذى القيمة. كلما شاهدت حلقة من برنامج باسم يوسف أدركت حجم الجهد الذى يبذله فريق البرنامج. وهذا جانب منه فقط. الجانب الآخر هو الإصرار على الإبداع فى كل مرة، الإصرار على تقديم شكل جديد، واستخدام الصورة والدراما والموسيقى والأدوات والأداء التمثيلى لفعل ذلك.
بسبب ذلك كله حين أقول إن برنامج باسم يوسف -بالنسبة لى- أهم برنامج «ثقافى» لا أبالغ، لأنه ينشر -بلا خطابة- قيما افتقدناها، أولها الذكاء الحاد، وثانيها الجدية، نعم الجدية حتى وأنت تعدين برنامجا ساخرا، وثالثها الإبداع، والخروج على السائد الردىء، عدم الاستسهال.
انظرى إلى القيم مرة أخرى. هذه نفس القيم التى لا يعرفها القطيع، وجماعات القطعان، بل تحاربها، وتعتبر أنها ضد ثقافتها. تسمى الذكاء تمردا وتسمى الانقياد سمعا وطاعة، أما الإبداع فعدوها اللدود، تسميه بدعة وتسميه ضلالا وتسميه هرطقة وتسقط عليه كل شىء بشع، لأنها تريد أن يظل الناس كما هم، على نفس الموديل اللى معاهم الكتالوج بتاعه، وإلا احتاروا ولم يعرفوا كيف يشغلونهم. من المضحك المبكى إنهم حين أرادوا أن يردوا على باسم يوسف نشروا فيديو تظهر فيه نفس اللقطة التى يعترضون عليها فى الدقيقة ٦:٢٠، لم يكلفوا أنفسهم عناء النظر فى ما سينشرونه.
انظرى إلى القيم مرة أخرى. هذه هى القيم التى تفتقدها الشعوب التى تخلفت. حين لم تلتفت عقدا وراء عقد، وقرنا وراء قرن، وألفية وراء ألفية، إلى سبب المشكلة الحقيقى. إنها تقلد بلا تفكير، ثم يتحول التقليد إلى القيمة الممدوحة، على حساب الإبداع، ويسمونها الأصالة، مع أن كلمة الأصالة تعنى أن الشىء مبدع نوعه، أى لا يقلد أحدا، هو فى حد ذاته أصل لنوع، لكنهم يستخدمونها بعكس معناها تماما.
الآن لم يعد خافيا أن برنامج باسم يوسف تعرض لتهديدات أكثر من مرة، ووصلته الرسائل بأكثر من طريق، وأنه بشجاعة نشكره عليها أصر على استمراره، أحيانا دون جمهور حتى لا يعرض الجمهور للخطر، متحايلين على ذلك بكاميرا لا تذهب إلى أبعد من الصف الأول. ولما لم يفلح التهديد البلطجى، لجؤوا إلى التهديد القانونى، على يد «مواطنين صالحين».
الآن لم يعد خافيا أن القطعان نفسها، لا الذئاب، تستهدف من يذكِّرهم بأنهم لا شىء، سوى قطعان.