بينما يدور فى الكواليس الحديث عن ميثاق الشرف الإعلامى المزمع إعلانه خلال أسابيع، وهو بالتأكيد لم يعد يخص دولة عربية واحدة بعد أن اخترقت الفضائيات حاجز الحدود بين المصرى والخليجى والمغربى.. بدأت السلطات المصرية بتوجيه ضربة استباقية لتمنع قناة «التت» ولم يدركوا أن كل فقراتها صارت متوفرة وبكثرة على «النت»، والأهم أن أخوات «التت» منتشرات بقوة فى عديد من الفضائيات.
إنها قناة متخصصة فى الرقص الشرقى وكانت تحظى بنسبة مشاهدة عالية نافست من خلالها برنامج باسم يوسف «البرنامج».
لا أحد يصدق أن المقصود بإغلاق القناة هو التجاوز الأخلاقى، خصوصا أن عشرات الفضائيات تعرض رقصات على الميمنة والميسرة من تردد «التت» بمعدلات اهتزاز أكثر، الرقص ليس فقط فى ارتداء بدلة تحية كاريوكا أو سامية جمال، ولكن هناك بالتأكيد من يرقص بالأفكار ويوزع الهزات هنا وهناك.
لم أرتح إلى هذا القرار، رغم أنى لا أتابع القناة، إلا أن المشاهد أصبح محاصرا بأخبار قتل ودمار ومولوتوف وقنابل مسيلة للدموع وأخرى فاقئة للعيون وخرطوش ورصاص مطاطى وحى، وغيرها من المفردات التى صارت تشكل الوجه الدائم للحياة فى عديد من دول الربيع العربى.
أدار المشاهدون المؤشر إلى «التت» يطلبون هدنة مؤقتة لعل وعسى، قد يعتقد البعض أن الرقص مطارد مع سيطرة التيارات المتشددة على الحُكم وكل مفاصل الدولة، بدليل مثلاً أن رئيس مجلس الشورى أحمد فهمى سبق أن احتج قبل شهر على عرض فيلم «امرأة زوجى» على خطوط شركة «مصر للطيران» بادعاء أن مشاهدة نيللى تُثير غرائزه. الواقع والوقائع تؤكد أن هذه لم تكن المرة الأولى التى يعلو فيها هذا الصوت، بل إن فوازير نيللى التى كانت تقدمها فى السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات كثيرا ما كنا نقرأ عمن يريدون مصادرتها.
قبل نحو 15 عاما كان التليفزيون المصرى يحذف الرقصات من الأفلام القديمة، ولو راجعنا الأرشيف السينمائى سنكتشف أن 90% على الأقل من أفلامنا لا تخلو من مشهد رقص أو اثنين، سواء أكان الفيلم بطولة «عالمة» رقص أم عالمة ذَرة!!
هل «التت» بداية؟ فى ظل حالة التوجس التى نراها بين نظام الحكم الإخوانى وقسط كبير من الإعلاميين والمثقفين، كل المؤشرات تؤكد أننا سنترقب معركة حياة أو موت بين النظام والقوة الناعمة، وفى البداية وكعادة السلطات القمعية تبدأ الطلقة الأولى بادعاء الحفاظ على قيم المجتمع وبعدها تفتح على الرابع.
السلطة ترى أن تطهير الإعلام هو الوسيلة المثلى للسيطرة على روح مصر الرافضة لحكم الإخوان، ولهذا تشكلت لجنة إعلامية تابعة للدولة لرصد ما يجرى وانتهت إلى أن هناك تضليلا متعمدا تمارسه القنوات الخاصة المصرية، وأن الضلال انتقل إلى «ماسبيرو» المعقل الرسمى للإعلام، وطالبت اللجنة الإعلاميين الحكوميين بأن لا يستدرَجوا إلى تلك المصيدة وأن يظلوا وحتى اللحظة الأخيرة دروعا للنظام.
هل صحيح أن الرأى العام فى مصر خاضع لهذه الفضائيات التى لا تتوخى الحقيقة ولا يعنيها سوى نشر الضلال؟ هل مذيعو «التوك شو» أصبحوا يسيطرون على توجهات الناس ويتحملون هم مسؤولية تهييج الرأى العام ضد مؤسسة الرئاسة، أم أن الحقيقة هى أن عشوائية القرارات الرئاسية لعبت دور البطولة فى هذا الشأن؟
هل العالم الواقعى صار تابعا للعالم الافتراضى؟ أم أن المنطق يقول إن ما يجرى على أرض الواقع لو أرضى الناس فسوف يرفضون ما تبثه تلك الفضائيات التى تُعكر صفوَهم، تحميل الإعلام مسؤولية الغضب الشعبى هى حجة البليد.
المنع سلاح فى يد الدول ولكنه مع الزمن فقد كثيرا من فاعاليته، مثلاً القضاء المصرى أصدر قرارا بإغلاق موقع «اليوتيوب» لمدة شهر بسبب فيلم «براءة الإسلام» المسىء للرسول عليه الصلاة والسلام فهل تم تنفيذه، الحقيقة أنه ظل حُكما على الورق. إغلاق قناة «التت» التى تبث إرسالها من خلال قمر «نايل سات» التابع للدولة لن يمنع القناة من أن تُطل على الجمهور من قمر آخر. التعامل مع الفضاء العصرى يطرح على الأنظمة المتحجرة أسلوبا مغايرا لاكتساب المشاهد إلى صفها بما تحققه من إنجازات على أرض الواقع، يبدو أن النظام الإخوانى هو الذى يرقص الآن على «واحدة ونص»!!