بينما كنت أكتب فى الأسبوع الماضى عن المخطط الصهيونى الأميركى فى أسلمة المنطقة، ودفاع أكثر أعلامه حماسا ونشاطا، نوح فيلدمان، الشرس عن أكثر قرارات محمد مرسى استبدادا، وأعد القارئ بمواصلة البحث عن مصادر هذا الدعم والتأييد فى كتابه، كانت جماعة الإخوان تحتفل بذكرى اغتيال مؤسسها حسن البنا (1906-1949) فى 12 فبراير عام 1949، وهو الاغتيال الذى جاء ردًّا على سلسة من جرائم الإخوان المتعددة عام 1948 وبخاصة نسف السينمات (مترو وكوزمو ومتربوليتان) والمحالّ التجارية فى وسط البلد، وتفجير القنابل فى حارة اليهود الذين يدعو عصام العريان إلى عودتهم الآن، وهى الأعمال الإجرامية التى راح ضحيتها كثير من المصريين الأبرياء فى السينمات بخاصة، مما أدى إلى حل الجماعة وحظر أنشطتها. لكن اغتيال حسن البنا كان بتحديد أكثر ردا على اغتيالات جماعته لكثيرين: من المستشار أحمد الخازندار إلى رئيسَى الوزراء أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى، إلى حكمدار القاهرة، أى مدير أمنها، سليم زكى، وغيرهم.
والواقع أن الاحتفال بمؤسس هذه الجماعة أمر يخص أعضاءها وحدهم، ولا يهم غيرهم. لكن ما أثارنى، بل استفزنى للكتابة عن حسن أحمد البنا الساعاتى هذا، هو أننى تلقيت فى بريدى الإلكترونى، دون أى طلب منى أو صلة من بعيد أو قريب بتلك الجماعة المحظورة، التى أصبحت فجأة محظوظة بعد قفزها برعاية أمريكية واضحة على الثورة المصرية النبيلة وإجهاضها لها، سيلا من رسائل الإخوان الساذجة التى يؤلِّهون فيها بفجاجة وغباء واضحَين مؤسس جماعتهم، كأنه نبى جاء بعد خاتم المرسلين. وأسخف ما أطلقته كتائبهم الإليكترونية التى تمطر عباد الله بسخائمهم وخطابهم الممجوج، هو سلسلة بعنوان «الإمام حسن البنا». تناولت حلقتها الأولى «وضوح الطريق» بداياته المبشرة بالطموح كأنها بداية نبى مرسل، وطبيعة دعوته وآفاق الطريق ومراحله، ومصادر تمويله.
فى هذه الرسالة الأولى قسم عن مصادر تمويل الجماعة، وهو سؤال لا يزال مطروحًا حتى اليوم. لكن الغريب أن هذا القسم يغفل كلية شروط البداية، التى ظلت تحكم الجماعة منذ تأسيسها. فشروط البداية وسياقها، كما برهن إدوار سعيد فى كتابه المهم «البدايات: القصد والمنهج»، شديدة الأهمية لفهمنا للمسيرة التى ستتبلور بعدها. وإذا ما اكتفينا هنا بموضوع التمويل الذى تتناوله الرسالة الأولى تلك، مؤجلين موضوع الإنشاء قليلا، سنجد أنها لا تكتفى بإغفال كيف بدأ حسن البنا دعوته وبنى مسجده الذى أطلقها منه فى الإسماعيلية بأموال الإنجليز (وقت أن كان الإنجليز هم العدو الذى يستعمر مصر، وكان التعامل معهم من المحرمات فى الحركة الوطنية)، وهى الأموال التى قدمتها له شركة قناة السويس البريطانية وهو يؤسس جماعته فى الإسماعيلية، وهو الأمر الثابت من رسائل حسن البنا إلى والده، التى نشرها أخوه جمال البنا، والتى يؤكد فيها تسلُّمه أولا مبلغ 500 جنيه من الشركة دفعةً أولى ثم 300 جنيه أخرى دفعةً ثانية، كما يؤكدها ريتشارد ميتشل Richard Mitchell صاحب أهم كتاب عن الجماعة باللغة الإنجليزية وهو «جماعة الإخوان المسلمين The Society of the Muslim Brothers» بعد أن دققها من المصادر الإنجليزية، بل وكشف أن المبالغ تزيد على تلك التى ذكرها البنا فى رسالتيه لأبيه.
فالكذب ديدنهم منذ أيام الإمام المؤسس حتى اليوم، إذ يُغفِلون الحديث عن بداية إمامهم مشروعَه بأموال الإنجليز، وبدعم منهم. وحتى لو اكتفينا بما ذكره البنا فى رسالتيه، 800 جنيه، فإنها بمقاييس عام 1928 مبلغ ضخم، إذ كان مرتب حسن البنا الشهرى وقتها أقل من أربعة جنيهات. أى أننا إزاء مبالغ تتجاوز قيمتها بحساب هذه الأيام مليون جنيه. وهو أمر يثير الشبهات بلا شك، ويؤكد أن تمويل الجماعة من مصادر مشبوهة أمر صاحبها منذ تأسيسها الأول. ولا تكتفى هذه الرسالة الأولى بإخفاء هذا الأمر، وإنما ترفده بالكذب والحديث عن رفض حسن البنا ما قدمه له الإنجليز من تمويل، وبخاصة بعد توسُّع تنظيمه وانتقاله إلى القاهرة، ومحاولتهم -كما تقول لنا الرسالة- شراءه بعد اندلاع الحرب.
أما الحلقة الثانية المعنونة بـ«الربانى المجدد» فإنها لا تقلّ عن الأولى كذبًا وتهويلًا، وهى تحول الواقع القمىء إلى أسطورة، إذ تتحدث عن ذلك الرجل الفذ الذى أسس تلك الجماعة عام 1928، وهو تاريخ تشكك فيه كل الدراسات المهمة عن الجماعة، من دراسة ريتشارد ميتشيل سابقة الذكر، إلى كتاب كريستينا هاريس Christina Harris «القومية والثورة فى مصر: دور جماعة الإخوان المسلمين Nationalism and Revolution in Egypt: The Role of the Muslim Brotherhood»، وحتى الفصول التى نشرها مؤخرا حلمى النمنم فى «التحرير» مما يبدو أنه كتاب مهم عن حسن البنا، تشكك كلها فى تاريخ عام 1928 وهو التاريخ المعتمد، الذى روّج له حسن البنا نفسه حينما احتفل عام 1938 بمرور عشر سنوات على تأسيسها. لكن ملابسات الوقائع تختلف كثيرًا عن الأسطورة التى يروجون لها، لأن الكذب هو ديدن الجماعة منذ أيام مؤسسها. وها هى مبالغات أتباعه تحيله إلى أسطورة، وتنسى أنها تتحدث عن مدرس ابتدائى شاب فى الثانية والعشرين من عمره بلغت به الجسارة، إن لم نقل الحماقة، أن يتصل بأعداء بلده، وأن يأخذ منهم مبالغ طائلة من المال (والمستعمر الإنجليزى لا يقدم أمواله إحسانا أو فى سبيل الله، بخاصة لو كانت لبناء مسجد لدين لا يؤمن به).
فقد كان حسن أحمد البنا الساعاتى وقتها شابًّا حظه من التعليم والمعرفة محدود. لم يزد على دبلوم مدرسة المعلمين، فهو حسب اعتراف الرسالة «لم يكن من حَمَلةِ الشهادات العالية، ولا هو من خريجى المعاهد الدينية إنما هو معلِّم ابتدائى فحسب، لكن حباه الله خصائص العظماء ومناقب الصالحين». فلم يكن البنا من علماء الأزهر، ولم يكن متخصصا فى الفقه أو الشريعة، بل كانت ثقافته الدينية متواضعة وبسيطة، فهو ابن ساعاتى من المحمودية (أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتى) ينتمى إلى المذهب الحنبلى. وقد عمل بالإسماعيلية عام 1928 عقب تخرجه فى العام السابق مدرسا للخط فى مدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية. شاب حدث فى الثانية والعشرين من عمره، فلماذا يموله الإنجليز بهذا السخاء؟ أمر يثير الأسئلة والشبهات. وقد ظلت محدودية المعرفة بالدين، واستخدام فهمهم المغلوط له لأغراض سياسية، طابعا يَسِمُ حركته منذ أن كان أحد شروط بداياتها. لكن الحلقة الثانية من رسالة «الإخوان» التى تحول الحقيقة البائسة إلى أسطورة، تحدثنا عن واضع نظريات العمل الإسلامى المعاصر، ومنهجيته فى الانفتاح على الآخرين بمشروع يحمل لهم الخير. وقد رأينا كل صنوف الخير التى يحملونها لمصر منذ أن قفزوا إلى السلطة، واستأثروا لأنفسهم بكل الخيرات والوظائف وعقود العمل والأعمال.
أما القسم الثالث المعنون بـ«الوطن والوطنية» فإنه يبدأ بكذبة أخرى، وهى الإعلان عن أن مفهوم الوطن والوطنية عنده ينهض على «أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية دون أدنى تمييز قائم على الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادى أو الانتماء السياسى والموقف الفكرى»، وهو الأمر الذى يوشك أن يكون منقولا عن التعريف العلمانى للوطن والمواطنة، والذى لا يؤمنون بأى كلمة فيه. لكن ما إن نواصل القراءة حتى نكتشف أن الوطن عنده شىء آخر يتحقق بـ«العمل على الوحدة الثقافية والفكرية والاقتصادية بين الشعوب الإسلامية كلها. يلى ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد. يلى ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الإجماع على «الإمام» الذى هو «واسطة العقد، ومجمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله فى الأرض». نعم لا تستغرب التناقض عزيزى القارئ فهذا هو ما جاء بالنص فى رسائلهم، التى تقارب ثلاثين ألف كلمة، فالإمام المرشد عندهم هو ظل الله على الأرض، كأننا قد عدنا إلى لاهوت العصور الوسطى، ومحاكم تفتيشها المتخلفة.
وليس هذا بغريب على حسن البنا، ولا على سياق بداية مشروعه الذى وُلد فى رحم الأزمة الاقتصادية الخانقة التى ضربت العالم ما بين عامى 1929 و1933، والتى ولدت الجماعة فى سياقها بنفس الطريقة التى ولدت بها بقية التنظيمات الفاشية فى مصر، مثل «مصر الفتاة» بزعامة أحمد حسين الذى كان، وليست هذه مصادفة لأن الطيور على أشكالها تقع، محامى الإخوان المتهمين فى قضايا الاغتيالات الأربع التى ذكرتها. لكن الأهم أن هذه التنظيمات الفاشية فى مصر كانت بنت تنظيمات فاشية أكبر ولدت فى الفترة نفسها فى أوروبا: وهى النازية الهتلرية، والفاشية الموسولينية، وكتائب الجنرال فرانكو الإسبانية. فقد كانت جميعها تنظيمات تعتمد أيديولوجيًّا على أفكار ضحلة وبسيطة، تسوغها بشعارات عريضة فضفاضة وأحلام كبيرة. بينما تعتمد تنظيميا على السمع والطاعة والعسكرة. لذلك كان طبيعيا أن تشكل «مصر الفتاة» قمصانها الخضر، على غرار قمصان الفاشية السود، وأن يشكل الإخوان النظام الخاص أو الجهاز السرى بقيادة عبد الرحمن السندى الشهير.
فاللائحة المعدلة للجماعة، سنة 1354هـ-1935م، والتى ترد فيها للمرة الأولى وظيفة «المرشد العام» تقول فى المادة 8: «وليس فى نظام الإخوان إقالة ولا استقالة، فإن عماد الفكرة الإيمان الروحى، ويجوز أن يعتذر الأخ عن مزاولة بعض الأعمال الإدارية إذا طرأ عليه ما يحول دون قيامه بها من غير أن يؤثر فى منزلته وصلته بالجماعة بحال»، هذه فى حقيقة الأمر سمة من سمات التنظيمات الفاشية التى لا تتيح لمن يدخلها الخروج منها متى أراد. أما المادة 16 فتقول وهى توشك أن تكون نسخة من مواد تنظيم هتلر النازى الذى يقول إنه لا صوت يعلو على صوت الفوهرر: «لا يعلو الصوت بالنقاش ولا يقاطع المتكلم ويتجنب الجدل والمراء وإطالة القول فى غير فائدة. وتحترم رئاسة الجلسة ويستمع لها ويستأذن منها»، أليس هو «ظل الله على الأرض» كما قالوا لنا.
والاستماع هنا هو الطاعة العمياء بلا نقاش، لأن النقاش جدل ومراء، وهو مرفوض لأنه عند كل التنظيمات الفاشية العدو الأول للعنف، لأنك ما إن تفكر فى العنف أو تناقشه حتى تبدأ فى الإقلاع عنه. لذلك كان تحريم النقاش كى يزدهر العنف. واهتمام التنظيمات الفاشية، التى زالت جميعا ولم يبقَ منها الآن غير «الإخوان»، بالسمع والطاعة، ضرورى لتكريس العنف وتنفيذه. فقد لجأت كل تلك التنظيمات، ما زال منها وما بقى، إلى العنف فى تحقيق غاياتها السياسية، لا إلى الحوار العقلى والإقناع والممارسات الديموقراطية. وكان جهاز الإخوان السرى هذا هو الذى قام بالاغتيالات الأربعة المذكورة، ومع ذلك تؤكد هذه الحلقة الثالثة أن «الإمام» كان «يرفض العنف والتخريب وإسالة الدماء». وماذا عن الدماء التى سالت فى تفجيرات السينمات، أو عن تلك الاغتيالات؟