من صداقات مقاعد الدراسة فى بنى سويف، مكرم يواقيم غبريال، الذى مازلت أتذكر اسمه الثلاثى، وكنا نتأهب لدخول الجامعة. أما لماذا أذكر اسمه كاملاً؟ فلأن والده الأستاذ يواقيم غبريال المحامى، عضو لجنة صياغة دستور 23، كان أول من قرأ «خربشاتى» فوق الورق ولم يسخر منها بل شجعنى على محاولات أكثر، وكان يدعونى مع ابنه مكرم لمكتبته الحافلة بشتى فروع المعرفة، غير كتب القانون والفقه والتشريع. وقد طلبت من الأستاذ يواقيم أن أحضر إحدى مرافعاته فى المحكمة فوافق. وذهبت إلى محكمة بنى سويف فى شارع الرياضى وكنت أدخل محكمة لأول مرة فى حياتى. كانت القضية «جناية»، ورأيت الأستاذ غبريال المحامى وهو يترافع بمنطق ومستندات وبراهين وشهود دون أن يرتفع صوته مثل المحامى فى أفلام السينما.
الأهم أنى رأيت القضاة وهم يدخلون القاعة بعد صيحة الحاجب «محكمة» ووقفنا إجلالاً. أتذكر من فرط الإحساس بالهيبة أنى كتمت كحتى مرتين احتراماً للقاضى والمستشارين. من الطريف أنى كنت أتفرس فى وجوه القضاة وكأنهم هبطوا من كوكب آخر! وتجرى السنون وتلهث الأيام وأسمع عن قضاة عتاة يوصفون بأنهم أصحاب أحكام أضيفت لكتب القانون حتى صارت مرجعية قانونية.
كنا نسمع عن القضاة ولا نراهم، مما ساهم فى هيبة شخصية القاضى، إذ لم يكن يسمح للقاضى بمخالطة الناس العاديين، فهم فى مرتبة تجعلهم لا يتبسطون. أنا من جيل يجل القاضى ويحترم شخصيته لأبعد الحدود. ويوم حاورت الرائد الاجتماعى د. أحمد خليفة، قال لى إن القاضى ورجل الأمن هما جناحا الدولة، رددت العبارة مؤكداً عمق معناها، ويوم قال سيد علم الاجتماع د. سيد عويس إن «الكاتب هو قاضى الكلمة» سعدت بهذا المنطوق الذى يحمِّل الكاتب مسؤولية ما يكتبه.
أتذكر فى حوار لى مع «هتلر طنطاوى» رئيس الرقابة الإدارية أنه ذكر أن هناك فى السجن «عنبر القضاة» يضم ثلاثة قضاة! وصدق مصطفى مرعى أحد جهابذة القانون حين قال إن القاضى «بشر يخطئ ويصيب وليس ملاكاً». فى زمان مبارك، أطل علينا من خلال شاشات الفضائيات أكثر من قاض، وكانت هذه سابقة فى القضاء وأحاط بها جدل كبير. وفى مطلع 2011 أشرقت انتفاضة شباب ضمت جموع الشعب وابتلعت فى جوفها نظاما هوى نجمه بعد 18 يوماً.
وبدأت «محاكمات» رموز نظام بأكمله، ولأول مرة شعرنا بأن الجالس على منصة القضاء هو الشارع المصرى الثائر بانفعالاته وجنوحه وجنونه وثوريته. ولأول مرة نشعر بالضغط الشعبى على القاضى بيد أن ضميره كان الغالب. ورأينا الشعب داخل المحاكمات بأسلوب غير مسبوق حتى إن القاضى كان يؤجل الجلسات أكثر من مرة. وصار القضاة يظهرون على الشاشات مما كان صادماً لى. فأنا من جيل يرفض اشتغال القضاة بالسياسة «أحط مهن الأرض»، ويرفض انحياز القاضى، لحزب أو تيار، لكن الواقع فرض نفسه. ثم فوجئنا ذات نهار أسود بالاعتداء على أعضاء المحكمة وتمزيق أوراق القضايا وتحطيم القاعة وذلك بعد نطق القاضى بالأحكام.
وقد استوجب الأمر تواجد أمن خاص مسلح خلف كل قاض تحسبا لهذه الهمجية طيلة المحاكمات فى الفترة الانتقالية. همجية داخل جلسات المحاكمات وخارجها.
كان القاضى يجلس على مقعد المنصة غير مستقر، فقد استأسد الشارع ببلطجة ربما عجز الأمن عن مواجهتها فى كل المواقع على أصحاب القرار. وحدث ما لم يكن متوقعاً بالمرة حين «انقسم» القضاة بين نادى القضاة وائتلاف قضاة مصر. وشوهدت مساجلات وتلاسن بين القضاة توصف بالعبثية، كان القاضى الجليل قد نزل من برجه العالى المقام بحكم منصبه ورفعة موقعه.. فقد الجلال والهيبة. وقد بلغ العنف المعنوى أقصاه يوم تنحية النائب العام الوطنى المنحاز لمصر عبدالمجيد محمود وجىء بنائب عام جديد، لعله الرجل المناسب فى التوقيت المناسب جداً «!!!»
نائب عام على مقاس الإخوان ونلبسه إحنا.
أين مذبحة القضاة فى زمن عبدالناصر من «مذابح» زمن الإخوان؟
وتحول الزند من رئيس لنادى القضاة إلى «متهم»، انتقاماً منه، وتدنى الأسلوب مع القاضى.
وما كنت أتخيل فى يوم من الأيام قيام مظاهرات واحتجاجات أمام مكتب النائب العام لإقالته ليصبح وجوده شرعيا من خلال مجلس القضاء الأعلى. ورفض النائب العام الجديد أن يقدم استقالته ويعود لعمله كقاض، لأنه تشبث بالكرسى، بيد أن إقالته صارت مطلبا شعبياً. لكن أذن النظام «طرشه». وفى زمن الإخوان «القضاء غير مستقل» أحياناً أشعر - مجرد شعور بأن «المحظورة» خرجت من السجن الطويل لتمارس انتقاماً من طائفتين: من حكموا عليهم - وهم القضاة، ومن حبسوهم وهم الأمن.
وربما صار الشعور يقينا يوم عشنا قمة المأساة فى حصار الدستورية والهتاف «الطعنة»: «بس يا ريس إشارة نجيب لك القضاة فى شيكارة»!! لا أظن أننى سمعت من قبل مثل هذا الهتاف إلا عندما أطل على البلد زمن الميليشيات. ولا أعتقد أنى من زمن الرومانسيين القدامى على حد وصف زميلتى الكاتبة زينب صادق، لأن الصورة التى رسمتها للقاضى ابتعدت تماماً وشوهت بأفعال الصبية. نعم، تغيرت تماماً صورة القاضى بعد الثورة. الثورة التى جاءت تعلى من قيمة العدالة، لكنها فى الزمن الردىء حقاً ضربت العدالة فى مقتل. لقد قيل لتشرشل بعد الحرب العالمية الثانية «لقد دب الفساد فى كل مفاصل الدولة» فرد تشرشل «ما حال القضاء»؟
قالوا له: بخير. فقال تشرشل: إذن بريطانيا بخير. نفس الملاحظة قيلت لشارل ديجول مؤسس الجمهورية الخامسة لفرنسا فسأل: هل التعليم والقضاء بخير؟ قالوا: نعم. قال ديجول: نبدأ البناء. ونحن نعيش أسود عهد للقضاء والتعليم خوفى على القضاء والقضاة من «الأخونة» وساعتها لن تكون مصر بخير.. الأخونة ملهاش نهاية ياكوتش.