فتحت عينىّ على الدنيا لأجد بقايا قطيع من الأغنام فى دارنا. كان الناس يصفونه قائلين: كان أوله فى بيتكم وآخره عند مدخل القرية، ومع هذه البقايا صرت راعياً صغيراً. كنت أخرج فى الصباح بنعجات قليلات وخروفين، لألتحق بقطيع كبير يضم كل أغنام القرية، ويقوده العم يوسف أبواسطاسى، الراعى العجوز الممشوق الصموت، الذى لا يكف عن الشرود والتأمل.
وزهوت بنفسى حين عرفت فى أول المدرسة أن كثيراً من رسل الله كانوا رعاة أغنام، فكنت أمعن النظر فى النعاج السارحة وراء العشب، وأتقافز من الفرح، وأنا أهشها يميناً ويساراً، فتميل مع العصا أينما ذهبت.
اختار العم يوسف خروفاً ضخماً وأعطاه القيادة. كان ذا قرنين منتفخين يرتفعان على رأسه كتاج، ثم ينيخان على عنقه إلى الخلف كحربتين ذاهبتين إلى غمدهما، وما إن يخرج القطيع من فوهة القرية بعد أن تتجمع أشتاته من مختلف البيوت، حتى يقدم هذا الخروف ماضياً خلف العم يوسف، وهو يمشى على مهل، وقد وضع عصاه على كتفيه، فيتبعه القطيع فى عمى، لا يحيد عن الطريق.
أما أنا وبعض رفاقى الصغار فكنا نمشى فى الخلف، وتضيع أجسامنا فى عجيج هائل، وآذاننا تتابع همهمات الغنم الذاهبة إلى حيث يكون الكلأ، وهى تتزاحم وتتهارش فيدخل الصوف فى الصوف، ويبدو القطيع وكأنه قد صار كتلة لحم ضخمة رجراجة.
كنا أحياناً نغمض أعيننا ونمشى، والعصى التى فى أيدينا ممدودة إلى الأمام، ومستقرة على ظهور النعاج، أو مغروسة فى تلافيف الفراء، وخطواتنا مضبوطة على سير القطيع، حتى نبلغ المراعى، فيسرع الخروف القائد نحوها، وتجرى النعاج وبقية الخراف خلفه، فتترك الأرض وراءها سوداء لا شىء فيها.
أحببت الغنم، لكنى كرهت أن أكون مثلها، وزادت هذه الكراهية يوم أن هجم الذئب على أطراف القطيع والعم يوسف نائم، ونحن لاهون نلعب «السيجة». أمسك حملاً صغيراً بفكيه الحادين، وراح ينهشه على مسافة من الخروف القائد، وبقية الخراف والنعاج. وقف كل القطيع عاجزاً يرتعد، ولو أن الكباش هجمت عليه بقرونها الطويلة المسنونة، لربما أنزلت الرعب فى صدره، وفر هارباً لا يلوى على شىء. صرخنا واستيقظ العم، وجاءت الكلاب متأخرة، فضاع الحمل، وعاد القطيع إلى مكانه بعد أن طردنا الذئب، يجترّ ما تبقى فى أجوافه، وكأن شيئاً لم يحدث.
وكان معنا طفل اسمه أسعد استغنى عن رأسه، يفعل ما يُطلب منه دون أن يتوقف بُرهة ليسأل عن شىء. أرسله ذات مرة العم يوسف ليشترى شاياً وسكراً، وجلس ينتظره على أحرّ من الجمر الذى أوقده أمامه، ودفن داخله براداً يغلى بماء أبيض، لكنه عاد بعد ساعة ومعه قرطاس كبير مملوء بالسكر، وليس معه الشاى، وحين سألناه، قال: أنتم قلتم هات شاى «الشيخ الشريب» - وكان نوعاً شهيراً فى هذه الأيام- فلم أجده فى أى دكان، ووجدت أصنافاً أخرى.
وهكذا كان يسير على المنوال ذاته فى أى مهمة يُكلف بها، لا يعمل إلا بما سمعه، ويطيع ما يُقال له دون أدنى تفكير، وضاق به العم يوسف فكان يناديه دوماً: يا خروف، ثم وجد له عملاً يليق به. ناداه ذات صباح فذهب إليه مسرعاً، وقف أمامه ورفع عينيه وهزّ رأسه منتظراً ما سيؤمر به، فقال له:
- هل ترى الخروف القائد؟
ـ أراه.
ـ وظيفتك منذ اليوم أن تمشى إلى جانبه، والغنم وراءكما.
ـ لِمَ؟
ـ يلزمنا خروفان من قدام.
وتذمرنا نحن الأولاد على ما لحق بصاحبنا، وهممنا أن نعترض، لكننا وجدناه يرقص فرحاً على مهمته الجديدة، ويجرى مسرعاً حتى وصل إلى الأمام، ثم أناخ بجسده قليلاً وهو يمشى، حتى أصبح ظهره فى مستوى ظهر الخروف، ثم مأمأ، وانطلق فى ضحك هستيرى، بعد أن ألقى العصا على جانب الطريق.
وبعد يومين رقّ قلب العم يوسف له، فناداه، وطبع قبلة على جبينه، وخصه بقطعة من الحلوى دسها فى يده، وقال له:
ـ عُد لتمشى مع أصحابك، أنا كنت أهذر معك.
ففوجئ به ينزع الحلوى من بين لسانه وفكيه، ويصرخ وتنهمر دموعه غزيرة ساخنة، ويضرب قدميه فى الأرض، ويقول:
ـ لا.. لا.
فربت الرجل كتفه، وهز رأسه، ونظر إليه ملياً فى شفقة، مستعيداً كل ما سمعه عن حكايات القهر التى يكابدها مع أبيه صاحب الصوت الأجش والكرش الكبير، وقال له:
ـ خلاص يا أسعد، زى ما تحب.
وفى يوم مرض العم يوسف، وخرجنا بالقطيع نحو الخلاء. كان أسعد إلى جانب الكبش الكبير فى المقدمة، ونحن فى الخلف نهش على الشاردة والتائهة والكسولة، وكنا نسير فوق جسر عالٍ، وننظر إلى البركة الآسنة الممتدة تحت أعيننا، والبوص الواقف على جنباتها يدارى دجاج الماء والشرشير، وفجأة جفل الخروف القائد حين وقعت عيناه على سرب من الشرشير متكوم بعضه فوق بعض، فظنه ذئباً رابضاً، ووجدناه من الهلع يرمى بجسده من فوق المنحدر باتجاه السرب، وفى اللحظة نفسها كان أسعد يسابقه نحو الهاوية، ومن ورائه كل القطيع.