للحب وجهان مثل كل شىء فى الحياة تراجيدى وكوميدى، ولهذا قال الفيلسوف الفرنسى بيرجسون إن الحياة ملهاة كوميدية لمن يفكرون ومأساة تراجيدية لمن يشعرون، والشاعر الغنائى الكبير حسين السيد كان قادرا على أن يعبر غنائيا بإبداع وألق عن وجهَى الحب المتناقضين.
«ييجى أبويا يعوز فنجان قهوة أعمله شاى وأديه لامى/ وخيالك ييجى على سهوة ما افرقش ما بين خالتى وعمى»! هل رأيتم سخرية أكثر من ذلك، هكذا غنت شادية فى أكثر أغانيها الشعبية «مين قالك تسكن فى حارتنا». استمعوا إلى هذه أيضا «ليك ماضى كله سوابق فى الحب مالهش أمان/ وأنا عايزة حب حنين مش حب يودى لُومان»!!
هل لاحظتم التقابل بين «سوابق» و«لُومان» لأول مرة تستخدم هذه المفردات فى أغنية عاطفية شعبية هكذا رددت شريفة فاضل فى «حارة السقايين». خُذ هذه أيضا مع محمد رشدى «كعب الغزال يا متحنّى بدم الغزال/ ما تبطل تمشى بحنية ليقوم زلزال». هذا هو الوجه الضاحك من الحب، تابعوا كيف عبر شاعرنا الكبير عن شجن الحب. «القصور اللى كلامك كان بانيها/ واللى كل جواب فرش لى ركن فيها»، هكذا غنت نجاح سلام فى «عايز جواباتك» أو محمد عبد الوهاب وهو يغنى «وعشق الروح مالوش آخر/ لكن عشق الجسد فانى».
مرت أمس الذكرى الثلاثون على رحيل الشاعر الغنائى الكبير حسين السيد، صاحب الرصيد الأكبر عددا وعدة فى مكتبة الأغانى العربية. فلم يترك الشاعر الكبير مجالا إلا وكانت له بصمته المتفردة. عرفت الشاعر الكبير فى سنواته الأخيرة وكنت دائما ما أحرص على أن أتجول معه من مبنى التليفزيون حتى مكتبه، حيث كان يقطن بوسط المدينة. أجمل رحلاتى سيرا على الأقدام هى تلك التى أصحبه فيها أستمع إلى حكاياته عن تاريخنا الغنائى والفنى. وكان له السبق فى تأليف أغانى الأطفال مثل «ماما زمانها جاية». ونكتشف أنه كان يداعب ابنته عندما كانت تبكى بسبب تأخر والدتها أستاذة الأدب الفرنسى فكان يقول لها «ماما زمانها جاية»، لتصبح أشهر أغنية للأطفال. ومن خلال الحواديت التى كان يرويها لأطفاله كتب أيضا لمحمد فوزى «ذهب الليل» و«يحكى أن». أما أعمق أغنية للأم «ست الحبايب» فاستلهم كلماتها من والدته التى كانت تطلق عليه كنوع من المداعبة «ست الحبايب»، والغريب أن الخاطر الشاعرى عندما ألح عليه لم يستطع أن يلاحقه بالورقة والقلم، فكان يكتب شطرة شعرية ويملى زوجته شطرة أخرى حتى انتهى فى دقائق معدودة من صياغة الأغنية.
أطلق على كل أبنائه أسماء تبدأ بحرف الحاء «حمدى، حميدة، حميد» بينما هو «حسين»، فأصبحت إمبراطورية «حاء» على غرار إمبراطورية «ميم» لإحسان عبد القدوس. لم ينسَ فى أغانيه أن يذكر اسم زوجته د.نعيمة، فكتب لها مداعبا «عليكى خطوة يا نعيمة/ لو شافها مخرج فى السيما يعملك فيلم عليه القيمة» فى «كايدة العزال» التى غنتها عايدة الشاعر!!
دخل عالم الأغنية من باب حبه للتمثيل، فكان واحدا من عشاق التمثيل الذين سعوا للاشتراك فى فيلم «يوم سعيد» فى مطلع الأربعينيات بطولة محمد عبد الوهاب، واستمع بالصدفة إلى مخرج الفيلم محمد كريم وهو يقترح على عبد الوهاب أن يقدم أغنية على إيقاع الخيل، فما كان من حسين سوى أن بدأ يستعيد فى ذاكرته وقْع أقدام الخيل، فى اليوم التالى قدم أغنية «اجرى اجرى» لتحدث توأمة بينه وبين عبد الوهاب، حيث كتب له ما يزيد على 70% من أغانيه سواء التى غناها بصوته أو لحنها لآخرين، والغريب أن كلا من العملاقين ولد فى نفس اليوم 13 مارس مع فارق 20 عاما لصالح عبد الوهاب بالطبع!!
غنى له الجميع ما عدا أم كلثوم. لا أحد يستطيع أن يعرف السبب بدقة.. شاعر كبير ومطربة عظيمة وجدا فى نفس الزمن، من الممكن مثلا أن نذكر أن علاقته بعبد الوهاب صنعت بينه وبين أم كلثوم جفوة، لأنه كان شاعره الملاكى، وهى كانت على خصومة مع عبد الوهاب، إلا أن عبد الوهاب لحّن لأم كلثوم عام 1964 «انت عمرى» وقدم لها بعد ذلك عشر أغانٍ لكبار الشعراء ما عدا حسين السيد. تحليلى الشخصى أنه لم تحدث كيميائية بين كلماته وصوت «أم كلثوم». سألته فقال لى إن أم كلثوم تتدخل فى الكلمات، ولهذا لم يكتب لها فى حياتها وبعد رحيلها كتب لها مرثيّة غنائية حملت اسم أم كلثوم!!
منح الأغنية بعدا دراميا مثل «ساكن قصادى»، وله رصيد ضخم من «الاسكتشات» التى كتبها لثلاثى أضواء المسرح مثل «دكتور الحقنى». ولم يتبق لدىّ مساحة سوى أن أن نتذكر الشطرة الأخيرة لـ«فاتت جنبنا» و«قالت لى أنا من الأول بضحك لك يا أسمرانى»!