قبل أيام غنّى عمرو دياب فى الدوحة داخل إحدى أسواقها الشعبية «سوق واقف»، لا أجد فى الحقيقة بأسا أن يغنى الفنان المصرى فى كل البلاد العربية، ولا أرى أيضا أن على الفنان أن يتبنى موقفا سياسيا ضد كل ما هو قطرى، فلقد تعودنا أن الكثير من تلك الاختيارات تشتعل وتتبدد فى لحظات.. ولكن هناك أولا استحقاق تجاه بلده لم يسدده بعد عمرو دياب.
دور لم يدركه، ومنذ ثورة 25 عندما قرر التزام الصمت، وكأن ما يجرى فى ميدان التحرير يجرى فى ميدان بـ«كوالا لامبور». وحتى لا يورطه أحد وقتها سافر إلى دبى وأغلق تليفوناته مرددا السكوت من ذهب، كان عمرو بالمقارنة أكثر ذكاء من رفيق المشوار محمد فؤاد الذى تورط كثيرا فى دفاعه عن مبارك إلى حد تهديده بالانتحار لو أجبروه على التنحى، ثم إنكاره لما هو موثق ومسجل.. عمرو صمت ولا يزال صامتا، ولكن الأمر الآن لم يعد يحتمل تلك المواقف الرمادية، بينما يعيش الوطن على شفا حريق، عمرو هو ابن محافظة الشرقية بإحدى القرى ولكنه قضى القسط الوافر من طفولته وشبابه فى مدينة بورسعيد الباسلة، وفى ذاكرة الطفل حفرت سنوات التهجير العديد من المواقف، وذلك بعد هزيمة 67 عندما كان فى السابعة من عمره وهاجر مثل أغلب أسر مدن القناة إلى القاهرة قبل أن يعود مرة أخرى إلى بورسعيد بعد انتصار 73. بدأ عمرو يعانق الشهرة منذ منتصف الثمانينيات ووصل إلى أعلى درجاتها، ولا يزال هو «الألفة» وأطلق عليه مريدوه لقب الهضبة، فى علاقة هؤلاء بالسلطة، خصوصا الذين يحققون نجاحا طاغيا استثنائيا وقدْرًا من الالتباس.
فى العالم الثالث عندما يصبح على الفنان، لكى يحمى نجاحه، أن يدفع الثمن، وهو التودد لمن يملك السلطة، ولهذا كان عمرو من المقربين ليس فقط لنظام مبارك، ولكن كثيرا ما كان يحرص على أن تستمر حبال الود إلى جمال وعلاء.
عمرو امتد صمته حتى الآن، هو يرى الوطن يتمزق وبورسعيد موطن الصبا والمراهقة تعيش فى عصيان مدنى وهناك من يرفع علم بورسعيد الدولة المستقلة، وانتظرت أن نرى عمرو يغنى لأهلها وأن يوحد كل المصريين فى هذا الحفل، ولكنه صمت عن الغناء والكلام.
ليس المقصود بالطبع أن يقدم أغنيات وطنية، ولكن أن يضبط موجته على مشاعر الوطن.
بعد هزيمة 67 جابت أم كلثوم كل المحافظات المصرية، وغنت للمجهود الحربى حفلات مجانية تكبدت أم كلثوم كل المشقة من أجل بلدها، لأنها تؤدى واجبها القومى وانتقلت للغناء فى العديد من العواصم العربية والأوروبية دعما للوطن الجريح.
لم تكن تنشد أغنيات وطنية بالضرورة، ولكنها أدركت بحدسها قبل إحساسها أن صوتها يتحدى الهزيمة.
بعد نصف قرن لم يعد بالطبع الزمن هو الزمن، ولا وجه أو مجال لمقارنة، ولكن ينبغى أن نتوقف أمام دورٍ ما إذا لم يستشعره الفنان فإنه يخسر كثيرا عندما يصبح الوطن مكانا فقط للإقامة فهو يسكن فى الوطن ولا يسكنه الوطن، وتلك الكلمة الخالدة التى قالها الراحل البابا شنودة متحدثا عن الأقباط، وهى القيمة التى ينبغى أن تسكن قلوب كل المصريين فى تلك اللحظات المصيرية.
نعم ممارسات الإخوان وخضوع مؤسسة الرئاسة لأجندة الأخونة هى خطايا ترتكب فى حق وطننا، ولكن فى ظل تلك الحالة الضبابية ينبغى أن يدرك الفنان دوره فى الدفاع عن مكتسبات الوطن.
لن يدخل المطرب أو الفنان فى خصومة مع الحاكم، أغلب نجومنا دأبوا على أن يركنوا إلى الصمت والخوف من أن تتبدد العلاقة مع الحاكم فى أى لحظة هم لا يدركون أن الدولة الآن تخاصم قواها الناعمة، مؤسسة الرئاسة حريصة فى كل ممارساتها على تهميش هذا الدور، فهل عمرو حريص هو أيضا على تهميش دوره؟
يبدو أن عمرو بطبعه إنسان «أنوى» وهو تعبير صكه الكاتب الكبير أحمد رجب على لسان يوسف وهبى فى أحد المسلسلات الإذاعية، واتضح فى الحلقة الأخيرة أنها كلمة بلا معنى، ولكن من الممكن أن تجد لها الآن معنى ينطبق على ملامح واختيارات ومواقف عمرو دياب فهو بالفعل إنسان «أنوى»!!