أكثر سؤال سألته الناس لنفسها عن جحا هو: هل جحا دا حقيقى؟
منذ نعومة أظافرك ونعومة أفكارك ونعومة حياتك وأنت تسمع عن جحا.
لكن، مَن جحا هذا بالفعل؟ ثم كيف يحيا إنسان- لو كان إنسانا حقيقيا فعلا- بكل هذا الغباء؟
فمَن جحا؟
أولا: انسَ كل ما سمعته عن الرجل وابدأ من جديد فى التعرف عليه، فالمفاجأة أنه لم يكن جحا الذى تتصور أنك تعرفه!
أول خيط بين أيدينا وأقدم مصدر ذُكر فيه جحا ونوادره هو كتاب «البخلاء» للجاحظ المتوفى سنة 255 هـ، فقد ذكر نادرة واحدة بطلها جحا، نفهم منها أنه كان معروفا فى أوائل القرن الثالث الهجرى.
المصدر الثانى هو كتاب «الفهرست» لابن النديم الذى ألَّفه سنة 377 هـ، تحت فصل بعنوان «نوادر جحا»، وهذا يعنى، كما يقول الدكتور محمد عبد الله النجار «أن نوادر جحا العربى قد باتت مشهورة فى القرن الرابع الهجرى حتى وجدت من شهرتها من يهتم بها ويجمعها ويدوِّنها».
وبين الحمق والجنون اختلف الرواة فى وصف جحا إلى أن جاء المؤلف الأشهر ابن الجوزى، وخرج برأى جديد فى كتابه «أخبار الحمقى والمغفلين»، حيث روى عن جحا ما يدل على فطنة وذكاء، إلا أن الغالب عليه التغفيل، وأن بعض من كان يعادى جحا دس عليه، ووضع أكاذيب الحماقة والغباء فى سيرته.
قال رجل لجحا: سمعت من داركم صراخا، قال: سقط قميصى من فوق، قال: وماذا فى ذلك، قال: يا أحمق لو كنت فيه أليس كنت قد وقعت معه؟
ومات جار له، فأرسل إلى الحفّار ليحفر له، فجرى بينهما خلاف فى أجرة الحفر، فمضى جحا إلى السوق واشترى خشبة بدرهمين وجاء بها، فسُئل عنها فقال: إن الحفار لا يحفر بأقل من خمسة دراهم، وقد اشترينا هذه الخشبة بدرهمين لنصلبه عليها ونربح ثلاثة دراهم ويستريح من ضغطة القبر ومسألة منكر ونكير.
وهبت يوما ريحٌ شديدةٌ فأقبل الناس يدعون الله ويتوبون، فصاح جحا: يا قومِ، لا تعجلوا بالتوبة، وإنما هى زوبعة وتسكن.
وحُكى أن جحا دفن دراهم فى صحراء وجعل علامتها سحابة تظلها.
ومات أبوه فقيل له: اذهب واشترِ الكفن، فقال: أخاف أن أشترى الكفن فتفوتنى الصلاة عليه.
وسمع قائلا يقول: ما أحسن القمر، فقال: إى والله خاصة فى الليل.
لكن مع كل هذا الغفل والهبل، فإن مؤرخا عظيما مثل الذهبى يقول عن جحا: إن أمه كانت خادمة أنس بن مالك، وكان الغالب عليه السماحة وصفاء السريرة، فلا ينبغى لأحد أن يسخر به إذا سمع ما يضاف إليه من الحكايات المضحكة، بل يسأل الله أن ينفعه ببركاته، وأغلب ما يذكر عنه من الحكايات المضحكة لا أصل له، وقد ذكره غير واحد ونسبوا إليه كرامات وعلومًا جمة.
ولقد ترجم ابن حجر فى «سِيَر أعلام النبلاء» لجحا، ونقل عن عباد بن صهيب: حدثنا أبو الغصن جحا، وما رأيت أعقل منه، ولعله كان يمزح أيام الشبيبة، فلما شاخ أقبل على شأنه، وأخذ عنه المحدثون.
هل عرفت أن جحا الحقيقى كان فقيها وصاحب علم وكرامات، ولعله كان مرحا وابن نكتة وصاحب مواقف مضحكة، فاستهبل البعض وطلعوه فى الكتب راجل أهبل!