لم يكن هذا اتفاقنا مع الرئيس السابق عند خلعه، قال لنا «أنا أو الفوضى»، فقلنا له «قشطة هناخد احنا الفوضى»، قلنا إن الفوضى مسألة وقت سيمر سريعًا بتحديد الأولويات والالتفاف حول حلم واحد، لكن لم يخطر ببالنا أبدًا أن نعيش نوعًا جديدًا من الفوضى مرتبطًا بالاحتلال، فالاحتلال لا يهتم إلا بفرض سيطرته وإحكام قبضته، وفى ما عدا ذلك «يعدّى عادى»، والحقيقة أن كله بيعدى حاليًا، نقض العهود بيعدى، التصريح بأن الحكم له عصابة وميليشات بيعدى، قرارات ديكتاتورية بتعدى، مئات القتلى فى كل مكان اعتراضًا على الحاكم وعصابته البوليسية بيعدى، عصيان مدنى ولا يهمنى، وضع أقزام العصابة على رأس المؤسسات الصحفية والإعلامية بيعدى، فضائح شراء قنابل غاز سام بمئات الملايين بتعدى، التخبيط فى القضاء والجيش والإعلام والمعارضة بيعدى، انتظروا خطاب الرئيس فى الثامنة ثم يتم عرضه فى الثانية صباحًا بمنتهى الصفاقة والاستهتار دون كلمة اعتذار واحدة وبتعدى، اعتراض سلمى أو اعتراض عنيف مش مهم، مئات الأطفال محبوسون فى معسكرات الأمن المركزى وبتعدى، نشطاء سياسيون يختفون ثم تظهر جثثهم مهانة من فرط التعذيب وبتعدى، دستور يتم سلقه على الهواء مباشرة أمام جموع المصريين بمنتهى البجاحة وبيعدى، آلاف الشهادات على تزوير الاستفتاء وبتعدى، قتلة وإرهابيو العهد الماضى يتصدرون المشهد ويعاملون النظام بندية وبتعدى عادى، مرسى وعصابته تنطبق عليهم تمامًا نكتة الرجل الذى قال لصديقه «على فكرة ماينفعش تصلِّى من غير وضوء»، فقال له صديقه «على فكرة عملتها ونفعت».
احتلال صريح من حفنة عاشت عمرها كمطاريد الجبل لم تتولَّ يومًا إدارة أجزاخانة فأصبحت تتولَّى إدارة دولة، تكابر فى الفشل بوقاحة منقطعة النظير، ولا يصلح لتقويمهم أى فعل أو لا فعل «المقاطعة»، لا يفرق معهم الكلام الجاد ولا الساخر، سماكة جلودهم منقطعة النظير وتعاليهم مهين تمامًا كما يليق بالمحتلّين.
مَن يدهشه اضطراب المعارضة وبقية القوى السياسية لا يفهم أن النظام الحاكم لم تفلح معه أى وصفة، والكلام عن مقاطعة الانتخابات القادمة يشوبه التردد ليقين الجميع من أن المقاطعة لن تصنع فارقًا، فالنظام لديه ما يكفى من السماجة أن يصنع برلمانًا كل من فيه رجاله، ثم يصنع تمثيلية يقسّم فيها رجاله إلى معارضين وحكوميين، هذا إذا لم نضع فى الحسبان أن المحتل يجد دومًا مَن يعاونه تحت ستار وطنى، ولدينا من هذه النماذج أسماء كثيرة كانت كبيرة فى ما مضى ثم أصابتها اللعنة، فصارت تتحوّل إلى أقزام بمرور الوقت، لا المقاطعة ستشكّل فارقًا مع هذا النظام، ولا حتى المشاركة، هذا نظام يتذكر رئيسه أن هناك موظفًا فى حزبه فرع بورسعيد جُرح ولا يتذكر عشرات القتلى برصاص القناصة والمدرعات، هذا نظام يرى الغضب مشروعًا إذا قاده إلى السلطة، ويراه مجرد وجهة نظر إذا كان فى السلطة، هذا نظام يصنع ببطء كل الأمجاد التى فشل النظام السابق فى صنعها، ويجعل الناس الذين رأوا المدرعات تدهس أبناءهم يقولون ماذا لو عاد الجيش، هذا نظام يكذب كأنه يتنفّس، ويبدل الحقائق دون أدنى احترام لذكاء المواطنين، ويلاوع كأصحاب الشبعة بعد جوع، يثير الغبار فى الوطن ويصنع الفرقة والتقسيم ويتّهم غيره، متواطئ فى صفقات سرية تفوح دون مقدمات رائحتها العفنة عند أول خلاف ولو على منصب مستشار للرئاسة، هذا نظام يعرف الله فى حدود أنه لا يسرق «لأن مابقاش فيه حاجة تتسرق»، لكن فى ما عدا ذلك فهو غارق فى الدم حتى أذنيه، واستطاع أن يغرق الوطن فى مختلف أنواع الهم، فهو نظام لا له فى التور ولا فى الطحين ولا يريد لأحد أن يعلمه (إزاى يبقاله فيهم).
تسألنى عن الحل؟ الحل فى يد الشعب، الشعب الذى منح النظام القدرة على أن يضع الصناديق فى ظهورنا كمطواة يثبّتنا بها، ثم يشكو الآن، إذا كان الشعب سوف يستعذب الشكوى كما حدث من قبل لمدة تزيد على عشرين عامًا فلن يتغيّر شىء، لكن إذا كان يحلم بأن ينجو من الاحتلال فعليه أن لا يراهن لا على جيش ولا معارضة ولا سلفيين ولا نشطاء ولا إعلام، عليه أن يراهن على نفسه، ليتخلّص من القرون التى يزرعها النظام فوق الرؤوس بطريقة تبهر العالم.