التكفير كلمة بشعة بغيضة تجاوز بشاعتها أى اتهام آخر، لأنها لا تطعن من تطلق عليه فى دينه، بل يمكن أن تجعله منبوذاً فى مجتمعه، محرومًا من حقوقه، وتحكم عليه بالموت وتلاحقه بعد موته، كل هذا دون أن يكون لها أساس ودون أن يكون لمن نقلها صلاحية.
إن من مفاخر الإسلام أن ليس له مؤسسة كهنوتية تملك التحريم والتحليل وتقف ما بين الإنسان والله تعالى، وتتحدث باسمه فما تربطه فى الأرض يكون مربوطاً فى السماء، إن الإسلام تحرر من مثل هذه المؤسسة، بل إنه شن غارة شعواء على الأحبار والرهبان الذين يفرضون وصاية على الناس ويشرعون لهم ما يفعلون، واعتبر ذلك نوعًا من الشرك «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (التوبة 31).
ومن يقرأ الآيات التى تحدث فيها القرآن عن «ولاية.. وصلاحيات» الرسول الذى بعثه الله، وحمله القرآن وجعله صاحب الدعوة، يعجب لحرص القرآن على أن يؤكد أنه ليس له من الأمر شيئا، وأنه لا يستطيع أن يهدى من يحب،وأنه ليس إلا «مبلغاً» و«بشيرًا ونذيرًا»، يبلغ ما أمره الله به، فإن اهتدى كان بها وإذا رفض فليس للرسول أى سلطة عليه، لأنه ليس مسيطرًا، ولا جبارًا، ولا حفيظًا، ولا حتى وكيلاً.
■ «مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ»(المائدة 99).
■ «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ» (الحجر 94).
■ «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (النحل 82).
■ «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِىءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» (يونس 41).
■ «لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَىءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ» (آل عمران 128).
■ «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» (ق 45).
■ «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية 21ـ22).
■ «إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ» (القصص 156).
يتصل هذا التوجيه الحكيم والتحديد لسلطة الرسول، حتى لا تجاوز التبليغ أو على أكثر البيان، بحكمة أخرى دق على معظم المفكرين تبينها أن الهدى والضلال يعودان إلى الفرد نفسه «مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا»، فما دام الأمر كذلك فليس للرسول أن يتدخل ما بين الفرد ومشيئته الخاصة.
هذا هو أدب الله للرسول العظيم، وهذه بعض الحكم التى لحظها الله، وقد كرر الرسول القول إن كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة، أى أنه لم يعتبره مسلمًا فحسب، بل حكم له بالجنة، وأكد هذا المعنى فى بعض المناسبات، ففى مناسبة قال له أبو ذر: وإن زنا وإن سرق؟ فأجاب النبى: «وإن زنا وإن سرق»، وعاوده أبو ذر فأعاد الرسول، وفى المرة الثالثة قال الرسول «على رغم أنف أبى ذر»!، وفى مناسبة أخرى فى قتال بين مسلمين ومشركين رفع أسامة بن زيد سيفه على رأس أحد المشركين بادر بهذا فقال «أشهد أن لا إله إلا الله»، ولكن أسامة عاجله، فلما ذكر ذلك للرسول استعظم الأمر وقال «أين تذهب من لا إله إلا الله»، قال يا رسول الله إنما قالها متعوذاً (أى لينجو من القتل، وليس إيماناً)، رد الرسول العظيم «هلا شققت عن قلبه!».
لم يكن فى عهد الرسول تكفير، وكان الرسول فى هذا يستهدى بهدى القرآن الذى عندما ذكر الردة، وهى الكفر الصراح، لم يرتب عليها عقوبة دنيوية لأنه وضع المبدأ الرئيسى «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ»، وعندما ارتد بعض الناس فى عهد الرسول لم يتتبعهم بعقوبة ولم يجر عليهم ما وضعه الفقهاء من بعد من عقوبات تقضى عليه بالموت وتلاحقه بعد الموت «كأن لا يدفن فى مدافن المسلمين، وأن تكون أمواله فيئاً».
ولكن قضت إرادة الله بتطبيق ما وضعه من سنن لسير المجتمع، ومنها أن يتأثر اللاحقون بالسابقين، كما قال الرسول «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»، فأصيب المسلمون بداء السابقين، بالإضافة إلى العوامل التى جرت على المجتمع الإسلامى وهيئته ليطهر دعاة التكفير.
وتقصى التاريخ يوضح أن دعوى التكفير تظهر عندما يتعرض المجتمع لأزمة عقدية/سياسية تمتزج فيها العوامل العامة والخاصة امتزاجًا يصعب معه التوصل إلى حل، ويصبح الحل هو القطع، أى التكفير، وقد مر المجتمع الإسلامى بثلاث أزمات بارزة فى تاريخه كانت الأولى هى «الفتنة الكبرى» عندما وجد الصحابة أنفسهم وهم يقاتلون بعضهم بعضًا ووصلت الأزمة إلى ذروتها فى معركة صفين الفاصلة التى كان فيها نصف المسلمين يقتل النصف الآخر، وعندما كادت تلحق الهزيمة بمعاوية تفتق ذهن هذا عن حيلة وضع المصاحف على أسنة الرماح ونادى مناديه بالاحتكام إلى كتاب الله، كانت حيلة بارعة لإيقاف المعركة التى كادت تودى بمعاوية، وحذر على بن أبى طالب جيشه من الوقوع فى هذه الخديعة وإضاعة النصر المحقق، ولكن مجموعة من جفاة الأعراب، وكانوا فى الوقت نفسه من أكثر الناس قراءة للقرآن ولكنهم كانوا يطلقون الآيات من ألسنتهم كما يطلقون السهم من القوس دون فكر أو روية أو استسلام لهدى القرآن، تجاوب هؤلاء مع دعوة معاوية وتوقفوا وطلبوا من على فى شراسة أن يوقف القتال، واضطر على للاستجابة لهم، بل ولاختيارهم أن يكون الحكم «أبو موسى الأشعرى» وفشل التحكيم نتيجة مناورة عمرو بن العاص وتبين هؤلاء الأعراب خطأهم فألقوا باللوم على على لأنه أوقف القتال، ورموه بالكفر وطالبوه بالتوبة! حتى يعودوا معه ويحاربوا عدوهم، ولنا أن نتصور هؤلاء الأعراب الجهلة الجفاة يحكمون على على بن أبى طالب بالكفر، ويطالبونه بالتوبة.