أخذ يفرك يديه حتى اكتسبت راحتاه اللون الأحمر، صباح جديد بارد مثل الرصاص، قفز مثل السنجاب إلى الميكروباص، اشتبك السويتر المهترئ فى الباب، فصرخ الأسطى عباس: «خلِّى بالك يا بجم.. قال واسمك معجزة، أمّال لو كنت مصيبة كنت عملت إيه؟»، لسعته الكلمات بكرباج أقسى من الثلج، دخلت من الأذن اليمنى، وخرجت من اليسرى، ثم عادت شظية من نار تلهب لسانه، فهتف صارخًا فى الهواء: «تحرير.. تحرير».
استدار معجزة ليعطى التمام، نادَى الأسطى الذى كان يشتبك مع بائع الشاى، ويلعن الزمن الذى جعله سائقًا، انحشر الزبائن فوق المقاعد التى تعرَّضت لإعادة هيكلة، ضاقت المسافات بإضافة كنبة جديدة، ووضعت خشبة فى الاتجاه العكسى تتسع بالكاد لثلاثة، بدأت محاولات تلقائية للتكيّف، الهدف أن لا تكون أرْجُل النساء فى مواجهة سيقان الرجال، قبل أن يستوى الأسطى أمام عجلة القيادة، كان يعلن فرمان زيادة الأجرة بمقدار ربع الجنيه: «مش عارفين نفوِّل، مافيش جاز، باجيبه من السوق السودا، قبل ما نطلع، مش عايز وجع دماغ.. الله يحرقها شغلانة»، شعر معجزة أن الأسطى يوزّع إهاناته على الجميع بالعدل، فأحس بالرضا.
أسفل الباب جلس معجزة، تحت الأرجل مباشرة، صرخ بصوته الرفيع: «الأجرة يا بهوات.. كل كنبة مع بعض.. مافيش فكّة»، مثل تلغرافجى يكتب برقية ويذيعها، ردّد معجزة ديباجة كل دور، عندما انطلقت السيارة بعيدًا عن ميدان المؤسسة، كانت الشبورة ما زالت فى الجو، فمنحت عملية جمع الأجرة ما يشبه الطقس السرّى، فى لحظات تجمعت العملات المعدنية لتستقر بجوار تلك الحلقة التى وضع فيها السائق كوب الشاى الساخن، نظر معجزة بطرف عينه إلى البخار، وعاد إلى موقعه تحت الأقدام.
فى كل صباح، يخرج مع أمه، يتركها فى الشارع، ومعها حفنة من المشابك الخشبية والمناديل، ساندويتش فول يكفى، لا شاى ولا لبن، تمنّى يومًا أن يمتلك بلوفرا أثقل من هذا السويتر البائس، يكره الشتاء فاضح الغلابة، الأسطى يريد أن يعلّمه، صحيح أن عباس تردَّد كثيرًا فى أن يستخدم صبيًّا ليساعده، الحكاية لا تستأهل ذلك، ولكن أم عبده جارة ولها حقوق، الولد أيضًا ليس سيّئًا، ولكنه ما زال طريًّا، يعنى تربية وتعليم ووجع دماغ، لا بأس، سيزهق بالتأكيد، ساعتها يكون الأسطى عدّاه العيب، سيقول معجزة لأمه: «إلّا بهدلة الطريق، والمشاوير، وشوية الملاليم اللى باخدها..»، سيبذل الأسطى مجهودًا مصطنعًا لكى يستمر الصبى «النبيه»، أغلب الظن أن معجزة سيستقر بفَرْشة ليمون بجوار أمه فى السوق.
لاح طريق الكورنيش، فبدأ الزحام، التفت عباس إلى الميكروباص المجاور، هتف دون إنذار: «الله يرحم اللى كان بيقعد ع الحصيرة ويدلدل رجليه»، أطلق السائق المجاور ضحكة بلهاء، قال بصوت منخفض: «اصطبح.. مش عايز أرد عليك.. معايا حريم»، كانت بجواره فتاتان محجبتان تنظران إلى الأمام دون مبالاة، رفع معجزة جسمه، استدار ليشاهد أطراف الحوار، قبل أن يعلو رأسه، كان عباس قد زاد من سرعة الميكروباص بشكل مفاجئ، ثم انحرف يمينًا، فتراجع رجل الحصيرة، خُيّل إلى معجزة أن مرآة السيارة اصطدمت بالمرآة المجاورة، لم يتوقّف السائق المنافس عن الضحك، انطلقت صرخات من داخل السيارتَين.
عند أبراج الأغا خان، مطّ معجزة رقبته إلى أعلى ما يستطيع، فى كل يوم تبدو الأبراج أمام عينيه مثل أشخاص عملاقة مثل عون بن عنق، حكت له جدّته يومًا أنه كان رجلًا عملاقًا، طول بعرض، رأسه فى الشمس، وقدماه فى قلب المحيط، وقت الجوع، يمد يده إلى الأعماق، يختار أكبر حوت، يحمله بالقرب من قرص الشمس، بعد الشواء، يمزمز الحوت، ويلقى بالهيكل إلى الماء، قالت له جدته: «كان معجزة»، أعجبته الكلمة، كان يرددها لكل من يقابله، أطلقوا عليه عبده معجزة.
مرّت عشر دقائق، بدا فيها أن السيارات لا تتحرك، تأفف راكب شاب، طلب من عباس أن «يشد حيله شوية»، قبل أن يرد الأسطى بعنف، كان معجزة يتولى المهمة: «يعنى ح ينط فوق العربيات؟! الدنيا كلها واقفة»، اكتفى عباس بالرد الطفولى، اعتبر أنه يليق بالأفندى الذى لم يتوقّف عن قراءة عناوين الجريدة بجوار الشباك الذى انخلع منه الزجاج، بعد مئة متر كان الرجل يفتح الباب لينزل، خناقة ما قبل الوداع.
«الرملة.. مين اللى قاللى ع الرملة»، قالها عباس وسط دخان سيجارته، رد صوت نسائى رفيع، كانت تجلس فى المقعد الوحيد بجوار السائق، نزلت فحلم معجزة أنه قد يجلس أخيرًا على الكرسى، قبل أن يكتمل الحلم، كان راكب آخر يقفز فى نفس المكان، تذكّر السائق أن عليه أن يُمتّع ركابه، أدار مفتاحًا أمامه، انطلق صوت جورج وسوف المتحشرج، كان يتحدّث عن كلام الناس الذى لا يقدّم ولا يؤخّر، ارتفع الصوت فجأة وهو يصرخ: «وليه يا حبيبتى نسمعهم.. أنا عاشق باسمّعهم»، وقف معجزة أمام الباب، التفت إلى اليسار، فشاهد مبنى التليفزيون، اعتقد أن الصوت قادم من المبنى الضخم العتيق، بدأت مرحلة الزحف فى اتجاه عبد المنعم رياض، لا شىء يتحرّك تقريبًا.
استدار معجزة، فأصبح فى مواجهة زجاج السيارة الأمامى، لمح منظرًا لم ينسه أبدًا: دُمية قطنية على شكل قرد انحشرت يدها فى باب ميكروباص من الخلف، أصبحت معلّقة فى الهواء، تركب السيارة مجانًا ذهابًا وعودة بلا صوت أو صراخ، شعر بحزن كالجبل، طفرت من عينيه دمعة، تمنّى لو ابتلع عون بن عُنُق المشهد بأكمله، فكّر أن يمسك حجرًا، ويقذف الأسطى عباس، ثم يهرب.
قبل أن تلفّ السيارة، ألقت بقية حمولتها من الركاب، هرولوا مثل أشعة متبددة، نظر عباس إلى معجزة نظرة آمرة، صرخ بعدها الصبى: «مؤسسة..مؤسسة.. مؤسسة».