أعلم أن قطاعاً كبيراً من المصريين أصابه قدر كبير من الغضب والإحباط من الجيش لارتفاع سقف توقعاته فى مرحلة ما، ولم تتحقق هذه التوقعات لأسباب كثيرة ليس هذا وقتها. وأعلم أن قطاعاً كبيراً من أفراد الجيش أصابه قدر كبير من الغضب والإحباط لما تعرضوا له من تجاوزات وإهانات وتشكيك فى مرحلة من المراحل، ذلك عندما تخلت كل القوى السياسية عن الجيش بإيعاز وخديعة من الجماعة، التى انفردت بها وأقنعتها بأنها القوة الوحيدة المتحالفة معها.
أشهد بأننى علمت وقتها بمحاولات حقيقية وجادة ومبادرات للتواصل من الجيش مع القوى السياسية الشبابية والليبرالية، بل إن مشروعاً لتمكين الشباب سياسياً كان مطروحاً فى مرحلة ما، إلا أن هذه القوى بلعت طعم الجماعة، التى وسعت الهوة بين الجيش وهذه القوى بأساليب متعددة، فاعتبرت هذه القوى أى تعاون مع الجيش خيانة للثورة. وهكذا حرمت هذه القوى نفسها والوطن من التعاون مع المؤسسة الوحيدة القوية الباقية، التى كانت قادرة على ضمان مدنية الدولة بتعاونها مع جميع القوى الفاعلة لتصل مصر إلى أمان الدولة المدنية الوسطية. لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى الأوطان، لتتمكن الجماعة من الانفراد بالجيش، الذى ظل يعانى هجوماً واتهاماً برغبته فى الاستيلاء على السلطة، وأشهد هنا مرة أخرى بأن ما تم الترويج له حول هذه الرغبة غير صحيح على الإطلاق، فلم تكن هناك رغبة أو مخطط للاستمرار فى السلطة، ولكن نجحت الآلة الدعائية لأصحاب المصلحة فى ترسيخ هذه الفكرة، وتوافق ذلك مع رغبات دولية «عظمى» لتنجح الجماعة فى القفز على السلطة واختطافها لتبدأ بعد ذلك الانفراد بها، وتطيح فى طريقها بالجميع حليفاً سابقاً أو منافساً أو من تعتبرهم من الأعداء. وفى الخارج لأسباب خاصة بقصور فهم لأهمية التواصل مع الخارج تركوا الساحة لمن قام بتشويه صورة الجيش، وقد لمست ذلك شخصياً مع العديد من السياسيين والإعلاميين الغربيين.
المهم أن النتيجة الآن كما نراها، وبينما ينطلق قطار «الأخونة» يصل إلى منطقة الجيش، فى محاولة لضم تلك المؤسسة الوطنية تحت جناح الجماعة لتتحول إلى الذراع العسكرية لها، أو بحد أدنى تقزيمها من خلال التغلغل فيها بأصحاب الولاء والسمع والطاعة، ليتسربوا داخلها ويتحكموا أو يحجموا حركتها. وقد بدا هذا التوجه والتحرك من خلال التصريحات العلنية أو ما يتم تسريبه حول هذا الموضوع، وغير بعيد عن الذاكرة تصريحات مرشدهم، التى أساء فيها للقوات المسلحة وقادتها، وادعى وقتها أنها حرفت عن معناها، وأيضاً ليست بعيدة بالونة الاختبار التى انطلقت مؤخراً عن إقالة وزير الدفاع.
يقول أجدادنا لا دخان بدون نار، لذلك كل ما يحدث هو إشارات عن رغبة حقيقية، بل تحرك تجاوز حدود الرغبة، من أجل السيطرة على الجيش. المهم هنا أن إدراك الجيش لهذا التحرك وهذه الرغبة واضح، مما يعرقل تنفيذ المخطط.
لى هنا شهادة أخرى، منذ وقت مبكر كان القرار من القيادة العسكرية ببحث كل السبل واتخاذ جميع الاحتياطات والبحث عن برامج التدريب التى تضمن عدم السماح لأى ولاءات أو انتماءات سياسية بالتواجد فى صفوف القوات المسلحة، وهذا ما ظللت أؤكده خلال الفترة الماضية، عندما كان يطرح التساؤل عن ولاء الجيش، فموقف قيادته كان واضحاً أمامى منذ البداية، ولكن التحدى كان دائماً فى القدرة على مواجهة الضغوط من الجماعة، التى تحمل مفاتيح قصر الرئاسة ويسكن أحد قياداتها منصب القائد الأعلى.
لم يفاجئنى التصريح المنسوب إلى مصدر عسكرى يحمل المعنى السابق، وإن كان صدوره دليلاً على صحة وجدية التوجه الذى تتبناه قيادة القوات المسلحة، ولكن من ناحية أخرى هو إشارة إلى أن الضغوط بدأت منذ فترة، ويبدو أنها تصل حالياً إلى مستويات أعلى، ويبدو هذا عندما يقول المصدر «جميع أبناء القوات المسلحة يرفضون الأخونة أو غيرها، ولن تنجح جماعة الإخوان المسلمين أو أى قوة سياسية أخرى فى اختراق الجيش»، وأن «ضباط الجيش بعيدون تماماً عن الانتماءات السياسية، ولائحة وقوانين المؤسسة تحظر ممارسة السياسة داخل القوات المسلحة، وأن الضباط يخضعون لتحريات سنوية عليهم، ولو ثبت انتماء أى ضابط لأى فصيل سياسى يحال للتحقيق، وقد تصل العقوبة إلى فصله»، وأن تعليمات الكلية الحربية واضحة فى اختيار الطلبة بعدم انتمائهم لأى فصيل سياسى، لافتا النظر إلى أن ولاء الطالب لمصر، وليس لأى فصيل آخر، ولو مارس السياسة داخل الكلية يستبعد.
إذن بات واضحاً أن الجماعة تحاول أن تفرض واقعاً، لكنها اكتشفت مقاومة شرسة ظهرت فى التصريح المنسوب إلى مصادر عسكرية مجهلة عقب شائعة إقالة السيسى، بأن التحرك من الجماعة ضد قيادة الجيش هو انتحار سياسى، وبعدها البيان الذى أشرت إليه. ماذا يعنى هذا؟ وما المطلوب عمله فى هذه المرحلة؟
الإجابة أن الجماعة تدرك تماماً أن القوة الوحيدة القادرة على الحفاظ على قوام الدولة هى المؤسسة العسكرية، وهى أيضاً المؤسسة القادرة على تحجيم ووقف الاندفاع نحو الانفراد بالوطن كغنيمة. هى المؤسسة التى قبلت كل القوى السياسية دعوتها للحوار الوطنى، فى الوقت الذى رفضت فيه الحوار تحت مظلة الرئاسة، وهذا يعد تصحيحاً لرؤية وفهم القوى السياسية لدور وقيمة القوات المسلحة، التى كانت محل تشكك من بعضهم فيما سبق، كذلك فإن ما صرح به الفريق السيسى، وزير الدفاع، محذراً من انهيار الدولة فى ظل التناحر السياسى، قد دلل على حقيقة أن الجيش يراقب بمسؤولية الأوضاع ومدرك للمسؤولية الملقاة على عاتقه، حتى لو بدا حريصاً على عدم الانجرار إلى المشهد السياسى.
هناك معركة حول الجيش وهناك معركة للجيش، بعد أن أدرك معظم المصريين حقيقة المؤسسة العسكرية الوطنية بات مهما تجاوز إحباط الماضى وحالة الغضب المتبادل بين البعض هنا والبعض هناك، وأن يتوحد التصميم على حماية مؤسسة الجيش كمؤسسة وطنية لكل الوطن لا تخضع للاحتكار أو الأخونة، هذا واجب كل المصريين الالتفاف حول الجيش ودعمه. فهو القوة الوحيدة الباقية لإنقاذ الوطن عند وقوع الوقائع التى تدفعنا إليها الإدارة الحالية للبلاد. أما معركة الجيش فهى العمل والضغط من أجل استعادة مدنية ووسطية مصر.