لو أعدنا قراءة أزمة الدكتور خالد عبد الله مستشار الرئيس لشؤون البيئة مع مؤسسة الرئاسة، قراءة صحيحة، قد ندرك أنها نفس أزمة الدولة المصرية مع جماعة الإخوان، فالرئيس مرسى أعفى مستشاره من منصبه لأسباب غامضة، وهى تشبه أن يطلق رجل زوجته، وكلما سأله الناس عن السبب يرد باقتضاب: ربنا أمر بالستر!
عبارة مخيفة تحيك كل خيوط الشبهات حول شرف الزوجة، وتحولها إلى مضغة فى الأفواه، مع أن الزوج من هؤلاء المدعين الذين يتاجرون بالدين ليل نهار، لكنه لا يرعو أن يرمى المحصنات بالباطل ويمرمغ شرفهن ومستقبلهن فى الوحل!
وهذا ما فعلته الرئاسة بالضبط فى تعليقها على إعفاء المستشار من منصبه «الوهمى»: جاء بناء على معلومات توافرت لدى الرئاسة رأت معها استحالة استمراره فى أداء دوره، حفاظا على المكانة التى تتمتع بها مؤسسة الرئاسة!
باختصار ألقت مؤسسة الرئاسة بالرجل إلى ذئاب الشائعات والشبهات الجائعة تفترسه كيفما تشاء!
منتهى عدم الضمير.. لأنه فى السياسة لا يجوز أن تقيل شخصا عاما من منصبه وتعلن أسبابا مبهمة إلا إذا كانت تسعى إلى تدمير سمعته ومستقبله!
وطبعا لا نستطيع أن نصدق الرئاسة بأى حال من الأحوال، ليس لأنها معتادة على الكذب غير المتقن، ويمكن أن نقدم ألف دليل على تلك العادة بالصوت والصورة، ولكن لأن السبب المعلن غير مرتب ومرتبك ويمكن وصفه بأنه غباء مقصود، والإنسان عموما يتصرف بغباء مفضوح حين تتحرك فيه الأهواء والاغراض.. فلو كان مستشار البيئة قد ارتكب فعليا ما يسيئ إلى منصبه وتتوافر عليه الأدلة والبراهين، لعرضت عليه مؤسسة الرئاسة أن يستقيل حفاظا على كرامته، وأن يعلن ذلك على الرأى العام متعللا بأى أسباب خاصة، لكنها لم تفعل وقصدت إهانته فى بيان يعلق كل الشبهات فى رقبته دون أسانيد مقدمة للرأى العام!
وهذا بالضبط ما تفعله جماعة الإخوان مع مصر كلها، تعمل على إعفاء مصر من تاريخها ومستقبلها، لأسباب رأت الجماعة أنه من المستحيل أن تظل مصر فى أداء دورها!
ولأن مصر كيان ضخم لا تستطيع الجماعة أن تنسب إليها تصرفات تشوه تاريخها وحضارتها، فأحدثت تعديلات ضرورية فى بيان الإعفاء الذى تمارسه فعلا دون أن تصدره رسميا، بتصريحات نارية من أعضاء الجماعة المعروفين أو الخلايا السرية المنتسبة إليها، تصريحات تصف الثوار والمعارضين والمناهضين لمشروع التمكين باتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، تشوه بها سمعتهم أمام الناس، وتتيح لها استكمال مشروعها الذى أساسه «طز فى مصر وأبو مصر»، المهم أن تتمكن الجماعة من تنفيذ مشروعها وفرض سطوتها واستكمال حركة التعيينات الهائلة لأعضاء من الجماعة فى آلاف الوظائف الحكومية، وهو ما اكتشفه مستشار الرئيس للبيئة!
وبالمناسبة لسنا ضد أن يحتل صاحب الأغلبية فى انتخابات مجلس النواب كل الوظائف السياسية غير الفنية فى الدولة، هكذا هو قانون الديمقراطية، لكن الإخوان عيونهم على الوظائف الفنية، التى تمكن الجماعة من الوجود الفاعل فى كل وزارات الدولة وأمانها الحساسة، فإذا خسرت الانتخابات لأى سبب من الأسباب، تظل مسيطرة وماضية فى غايتها.
وهذا هو جوهر الصراع الآن.. مصر الدولة العصرية لكل المصريين فى مواجهة مصر الدولة الماضى لأصحاب التيارات الدينية.. مصر الباحثة عن موضع قدم لها فى القرن الحادى والعشرين بأدوات وأساليب حديثة متطورة، كما فعلت اليابان وكوريا وتركيا وماليزيا، مع الحفاظ على خصوصيتها الثقافية ودور الدين المهم فى تكوينها العام والخاص، فى مواجهة مصر مجرد ولاية تعمل بأساليب الماضى وأدواته، ولاية من دولة خلافة يستحيل أن تعود إلى الحياة، لأن النظم والدول التى تموت لا يمكن إعادة إحيائها، فلا أحد يملك قدرة الله سبحانه على إعادة الموتى، ولم يحدث هذا طوال التاريخ الإنسانى منذ خلق الله الأرض ومن عليها.. ولو تمعن دعاة الإسلام السياسى فى مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين وأغلب الصحابة من العشرة المبشرين بالجنة والدماء التى سالت منذ معركتى الجمل وصفين إلى انهيار الدولة العباسية، ودرسوا الأسباب وعقلوها لأدركوا فداحة ما ينادون به!
لكن هذا هو أصل الصراع: مصر تكون أو لا تكون، مصر المستقبل ذات الحضارة العريقة، ومصر أخرى تتراجع مئات السنين إلى الخلف.
ولهذا لم يلتفت الرئيس محمد مرسى إلى الاضطرابات والأزمات المشتعلة بقوة على أرض الواقع وتجاوزها إلى الدعوة لانتخابات مجلس النواب وسط بيئة كارثية، لأنه لا يهتم إلا بمشروع الجماعة فقط، ويتوقف حسم هذا الصراع على شباب جديد متعلم على دراية بعصره وفكره ومصمم على استكمال ثورته مهما كان الثمن.. والثمن باهظ حتما لأنه صراع وجود!
وعليك أن تختار!