كل من فى البيت كانوا يعرفون أن «هشام» فى طريقه للحضور. ورغم أن ذلك كان حدثاً مألوفاً، فإن هذه المرة لم تكن كسائر المرات. لم يكن «هشام» يُعامل فى بيت «مها» كمجرد جار حميم تربط الألفة بين الأسرتين. كان مفهوماً- وإن لم يتحدث أحد عن ذلك- أن مشاعر عذبة تربط بينه وبين «مها». واعتُبر السكوت على ذلك قبولاً ضمنياً فى انتظار ما تأتى به الأيام.
دق جرس الباب فى الموعد المعتاد. لكن رنين الجرس بدا هذه المرة غير المألوف. تلقاه كل من فى البيت بمشاعر مكبوتة ويقظة تامة للحواس. لشدّ ما تغير الأمر عن المرات السابقة. كان رنين الجرس فى الموعد المعتاد فى أصيل كل جمعة حدثاً لطيفاً ومتكرراً. يجلس «هشام» مع صديقه «على»، الذى يصغره بعام واحد. يندفع الصغير «باسم» ملتصقاً بـ«هشام» فى إعجاب واضح كثيراً ما أثار الدعابات. ثم تدخل «مها» باسمة الثغر، ترحب بصديق العائلة وتجلس معه فى بساطة وهدوء. كانت قليلاً ما تتكلم، وتميل للصمت بطبيعتها، إلا أن تعليقاتها النادرة تنم عن ذكاء لاشك فيه، وروح مرهفة ناصعة النقاء. ولم يكن فى طبيعة العلاقة بينهما ما يستثير القلق أو يدفع الأخ إلى الحميّة. علاقة نقية تنمو تحت ضوء الشمس، ولم يبد على «مها» فى أى لحظة شرود العاشقين أو انشغالهم حتى ساور الجميع- فيما عدا الأم العليمة بمكنون ابنتها- التساؤلات إن كانت «مها» تهتم أصلاً بـ«هشام».
لكن هذا المساء كان حافلاً بالانفعالات. فى اليوم السابق، مساء الخميس، زارتهم والدة هشام وطرحت على صديقتها رغبة «هشام» الحارة فى الارتباط بـ«مها». ورغم أن ذلك كان المسار الطبيعى للأشياء، وتتويجاً لمشاعر عذبة نقية فإن الأسرة تلقت النبأ بكثير من الانفعال.
دق جرس الباب فى وجل وتهيّب وكأنه يستأذن الأقدار. ودخل «هشام» فى خطوات مترددة، فقابله «على» فى هدوء مشحون بالانفعالات. وساد الصمت لولا تدخلات «باسم» الذى أنقذ الموقف بطفولته النزقة. ودخلت الأم وسلمت عليه فى اهتمام. ثم نادت بطريقة طبيعية على «مها»، التى تعلقت بها الأنظار.
لابد أن أنظارنا تخدعنا، وإلا فكيف قد شفّ عودها، فى ليلة واحدة حتى أوشكت أن يقصفها النسيم وجلست غير جلستها الطبيعية!! وكان مثل هذا اللقاء فى الظروف العادية فرصة ينتهزانها ليندمجا فى حديث ودى عن كل شىء فى العالم، أما هذه المرة فقد تضرج وجهها، وأشرقت على شفتيها بسمة خفية كأنها أول خيوط الفجر مُبشراً بالشروق.
ورفع «هشام» نظراته المرتبكة وسددها نحو «مها»، فاستقبلت نظراته بنظرة حالمة، وقد استحوذ عليهما «سحر اللحظة»، وقد شعرا لوهلة بأن العالم بأسره غير موجود.
فيما بعد سوف تفاجئهما الأيام بكثير من الحوادث، بين صعود وهبوط. لكن مهما طال العهد فسيظل كلاهما يذكر «سحر اللحظة»، حينما جلست «مها» فى مواجهة «هشام»، وقد تألق محياها الوادع بإشراقة من هناءة روحية، وكأنها اطمأنت إلى مصيرها فى الحياة.
aymanguindy@yahoo.com