فى الطب، الملل هو مرض المدينة الحديثة، وهنا فى مصر «الحديثة نسبيًّا» الملل هو السمة الرئيسية لعصر حكم الإخوان الذين أدخلونا زمن الحداثة من أقذر أبوابه، والرئيس محمد مرسى شخص من فرط غرابته صنع لنفسه هالة من الملل، وهو ربما الرئيس الوحيد فى تاريخ مصر الذى ينتظر الشعب خطاباته، لا لشىء سوى معرفة إلى أى مدى سيصل بهم هذا النوع الجديد من «الملل».. لا يجلس أمام مرسى شخص واحد ليعرف منه الجديد أو ماذا ستكون خطته للأيام القادمة، بل انتظارًا لنكتة هنا أو تناقض هناك يُتحِفُنا به الرجل بشكل معتاد ومملّ، وأحيانا مُضحِك، لفرط سذاجته، فهذه هى ممارساته منذ أن جاء رئيسًا.
وحقيقة.. الملل الذى تصنعه مواقف الدكتور محمد مرسى فى رئاسة الجمهورية فاق حدودًا كثيرة، وهو أقرب ما يكون إلى الملل الذى تصنعه المسلسلات التركية، فمرسى وإخوانه ومكتب إرشاده يحاولون بدأَب شديد منافسة دراما بلد السيد أردوغان، غير مهتمين بحقيقة أن اللعبة التى يستمتع بها الجمهور والأبطال والممثلون تكون مقبولة فقط على الشاشات ولا يمتد الاستمتاع بها أبعد من حلقات المسلسل، لكن اللعب فى مصير الوطن، تمتدّ حرائقه طولا وعرضا، ولن ينطفئ حينما نغيِّر القناة أو نبعد أعيننا عن المشهد القاسى.
يعرف كل متابعى هذه المسلسلات منذ أن عُرِضَت حلقات «نور ومهند»، أنه لو امتنع أحدهم عن مشاهدة أى مسلسل لمدة عشر حلقات أو حتى عشرين حلقة، فسيجد الأمور كما هى لم تتطور عندما يعود للمتابعة مرة أخرى، كأن الحياة توقفت عند الأحداث التى شاهدها منذ أسابيع.. هكذا هو محمد مرسى وسياسته واقتصاده، فلو منعت نفسك -وهذا صعب للغاية- عن متابعة ما يجرى على الساحة السياسية من أحداث، ورد الرئاسة عليها أو تعليقات مرسى ومواقفه تجاهها، فاعلم تمامًا أنه لم يَفُتك شىء مما يفعله الرئيس الإخوانى، فمنذ أكثر مما يقرب من ثمانية أشهر ومواقف الرجل ثابته لا تتغير.. كما هى.. كذب وخيانة للعهود، وتطنيش كامل للشعب، وتنكيل بالمعارضين، وانتهاك للقضاء، وتضييق على الإعلام.
وطبقا لما يُنشر من أخبار فنية عن هذه المسلسلات فإن تصويرها يستغرق أحيانا أكثر من سنة، حتى إنهم يُضطرون إلى تغيير بعض أبطالها (مسلسلا «نور ومهند» و«رماد الحب»)، أو الأصوات -فى الدبلجة العربية-(مسلسل «فاطمة»)، أيضا يتضح من الفترة التى قضاها مرسى ممثلًا فى الرئاسة، أنه يمكنه أن يبقى أعوامًا يكرر نفس الكلام والأحاديث والتصريحات، معتبرًا نفسه فى الحلقة الأولى من فترته الرئاسية، قد يغير مستشارًا أو وزيرًا أو متحدثًا رسميًّا أو خفيرًا، لكن يبقى الوضع «منيّلًا» على ما هو عليه.
حينما تشاهد مسلسلًا تركيًّا ستندهش -من غير ما تاكل «فريسكا»- من تأخر البطل فى استيعاب الحقيقة رغم أنها «باينة للأعمى». وفى الوقت الذى يشكّ فيه الجميع ويحاولون التقصِّى للوصول إليها، يكون البطل غارقًا فى أفكار أخرى ومغيَّبًا بشكل غير مفهوم يثير استفزازك (شخصية عدنان فى مسلسل «العشق الممنوع»)، وهو ما يجعل الأمر مُمِلًّا. أيضًا مرسى بطل المسلسل الإخوانى الذى لو تابع قليلًا شاشة التليفزيون -بعيدا عن قناة «الجزيرة» مباشر - مصر» و«مصر 25» والتليفزيون المصرى- لعرف كل الحقيقة، لكنه يصر على القيام بدور عدنان.
دراما مرسى فى القصر تتفوق على مبالغات المسلسلات التركية.. لاحظ مثلا أن الأحداث فى بعض الحلقات قد تصل إلى الذروة وتحدث بها مواقف تُشعِرك أن هذه هى النهاية، لكن «الدنيا تتشال وتتحط» ثم تهدأ الأحداث بلا منطق، كأن شيئا لم يكن، ولا أحد يتخذ قرارا على قدر الكارثة (أبطال مسلسل «على مر الزمان»).. مرسى كذلك كان يتابع الاشتباكات الدائرة من شرفة قصر الاتحادية، وبينما هى تشتعل وتبلغ ذروتها فى القتل والتنكيل والتمثيل بالأجساد من قِبَل جماعته للمعارضين، يُنهِى هو صلاة العشاء سريعا ويطمئنّ على صحة المرشد، ويقرأ أذكار ما قبل النوم «الإخوانية» ويذهب إلى سريره مبكِّرًا.
لكن -والحقّ يُقال- هناك فرق يبدو أنه سيظل إلى الأبد بين المسلسلات التركية ومحمد مرسى، فحينما تشاهد مسلسلًا تركيًّا، ستجد نفسك مستمتعًا بجمال المناظر التى تظهر فى الحلقات، وكذلك الأماكن والبيوت والقصور، حتى الملابس سترى فيها جديدا.. أما مع مرسى فلا جديد، حيث ننتقل من كآبة مكتب الإرشاد إلى ظلام وسوداوية حزب الحرية والعدالة، ومؤخَّرًا أصابع الرئيس.