هل تعلم عزيزى المواطن ما النطاعة؟
النطاعة هى أن تعيش عالة، أن تكون فى مكان لا تسهم فيه بأية إسهامات، أن ترى شخصا فى مأزق أو فى جهد ولا تهمّ لمساندته ومعاونته حتى تضطره إلى أن يرفع لافتة على شط القنال مكتوبًا عليها للسفن المارة «sos»، أى «أنقذوا أرواحنا».
إن لم تستطع أن تحل مشكلة الإنسان الواقع فى مأزق ما، فليس أقل من التضامن معه.
حقيقة أنا أستغرب رد الفعل «الطرى» المستشرى فى كل أنحاء الجمهورية أمام عصيان بورسعيد المدنى. هل تعلم عزيزى المواطن أن مطلب العصيان المدنى الرئيسى هو أن يعامَل شهداء بورسعيد معاملة شهداء 25 يناير؟ وماذا جنى شهداء 25 وذووهم سوى الدعاء بالرحمة؟ هل تعلم أن جل أهل بورسعيد يشتغلون فى العمل الحر، أى أن العصيان المدنى يعنى بالنسبة إليهم الجوع الحتمى؟ طيب هل تعلم أن أهالى بورسعيد قالوها بفعلهم لا بألسنتهم: الجوع ولا المذلة؟ هل تعلم أن السيد الرئيس ألقى إلى أهالى بورسعيد برشوة إعادة المدينة منطقة حرة، وأنهم مع ذلك لم يخضعوا، بل وشعروا بالإهانة؟
طيب حضرتك البعيد ماعندكش دم؟
المارة يُقتلون أمام السجن بدعوى حمايته، ومن بين البلطجية الذين قتلتهم الداخلية لتحمى السجن: طفل يبلغ من العمر ستة أشهر، ورجل قعيد... هؤلاء هم من قال عنهم السيد الرئيس فى ألمانيا: بيضربوا الطيارات بالمدافع اللى معاهم! وراح مشاور بصباعه لفوق كده. ومع ذلك لا يتحرك أحد سوى الثلة التى تتحرك كل مرة، وبدأت هذه الثلة فى التحول إلى قلة بسبب تشييع جنازاتهم واحدًا تلو آخر.
إن كان لديك لبس فى من قُتل أمام السجن، وكنت تظن أنهم من البلطجية الذين يحملون مدافع جرينوف ويضربون الطيران، أظن إنه لا لبس فى من قُتل فى أثناء تشييع الجنازة.
بورسعيد مدينة باسلة، لها تاريخ نضالى لم تكافأ عليه حتى الآن، ولو أنك تزور مدينتَى بورسعيد والسويس كثيرا كما أفعل، لقابلت عشرات الأبطال من الفدائيين الذى قاوموا الجيوش المعتدية بالجهد الشعبى. لن تقابلهم فى وزارة الدفاع، أو فى مكتب مكيَّف، بل ستقابلهم وهم يقودون تاكسى أو ميكروباص أو يقفون فى كشك يبيعون السجائر ليحصلوا على قوت يومهم بشرف. وستسمع رنة المرارة فى نبرتهم، وستذرف دمعتين، وتدفع أجرة مضاعفة، وسيردون لك الباقى بابتسامة حزينة: لا ده كتير.. مش حاخد إلا حقى بس. وإذا سولت لك نفسك أن تلحّ عليهم فى عدم استرداد الباقى، لرأيت عِرْق الغضب ينفر فى جبينهم وهم يقولون: والله ما ينفع.
هذا الإحساس المتراكم بالمرارة والغبن والظلم، تفاقم بعد تولى مبارك الحكم، وتعمده عزل مدن القناة، وإهمالها. حقيقة إن مبارك أهمل البلاد كلها، لكنه اختص مدن القناة بإهمال «وصاية»، ثم تزايدت حدة الاحتقان بعد مذبحة بورسعيد، التى راح ضحيتها 74 من شباب «أولتراس أهلاوى»، حيث شعر الناس فى بورسعيد بأنهم يتعرضون لعقوبة جماعية على جريمة اقترفتها مجموعة منهم، خصوصا أنه لم يتم محاكمة أحد سوى المدنيين، أما الداخلية والجيش الذين أسهموا بالفعل فى هذه المجزرة، فلم يتم توجيه أى اتهام إليهم، ناهيك بمحاكمتهم.
كلنا كان يتوقع بعض القلاقل يوم النطق بالحكم فى قضية مجزرة بورسعيد، فلو أن الحكم كان بالبراءة للمتهمين، لخرج الأولتراس فى تظاهرات معترضة، ولو أن الحكم كان بإدانة المتهمين، لخرج أهاليهم فى تظاهرة معترضة -حتى لو ابنى قاتل.. ما هو لازم لما يعدموه أعترض، مش ابنى؟!- هذا كان ما يستشرفه الجميع، لكن أحدا لم يستشرف أن تقوم قوات الأمن بالرد على التظاهرات بقتل 40 منهم ممن لم يكن يتظاهر بالأساس! طب اضرب طلق فى الهوا.. ارمى قنابل غاز... قتل كده على طول؟! وإطلاق رصاص حى بهذه العشوائية؟! بعدين تشاور بصباعك على السقف وتقول جرينوف؟! ثم ما لم يتوقعه كائن من كان، مهما بلغت حدة مرض خياله، أن يُقتل من خرج يشيع جنازة من مات بالأمس! ولم تكتفِ السلطة بالقتل، بل اتهم رئيس الجمهورية القتلى بأنهم بلطجية، ثم فرض حظر تجوال وطوارئ على مدن القناة: بورسعيد، السويس.. وأخيرا الإسماعيلية! طب الإسماعيلية مالها طاه؟
الآن، وبعد قتل، ثم اتهام، ثم تجاهُل، كل ما يطالب به أهالى بورسعيد، ويقومون بتجويع أنفسهم تجويعا جماعيا لأجله، هو الدعاء بالرحمة لمن مات منهم... فإن لم نستطع أن نشاركهم، فليس أقل من التضامن معهم... ناس عندها كرامة، ولّا انت مش فاهم يعنى إيه كرامة؟