أصبحت كلمة «الفلول» من التعبيرات المستهجنة التى لا تعكس على أرض الواقع تفسيراً مقبولاً لتلك الكلمة المظلومة، «فالفلول» هى البقايا المبعثرة للجيوش المهزومة، وهى بذلك تنسحب على كل من كان فى الساحة السياسية- قبل ثورة 2011- بغير استثناء، لأنها إشارة مباشرة إلى رحيل الماضى بمن كانوا فى الحكم ومن كانوا فى المعارضة أيضاً! لذلك فإن توسيع دائرة معناها، كما نشهد حالياً، إنما يمثل إساءة واضحة للتاريخ المصرى المعاصر، وأولى بها أن تنطبق فقط بمدلولها السلبى على من يدينه القضاء الطبيعى فى جرائم جرى ارتكابها فى العهد البائد، لذلك جاء النص الدستورى، الذى يشير إلى «الحظر السياسى»، مخالفاً للحقيقة مجافياً للواقع معتمداً على التعميم لا يخلو من هوى سياسى ولا يبرأ من كيدية يجب أن ترتفع عنها الدساتير، بل حتى القوانين. أقول ذلك وأنا أكتب عن شخصية وطنية مصرية عرفتها عن قرب منذ منتصف ستينيات القرن الماضى، حيث جمعتنى بالدكتور «عبدالأحد جمال الدين» زمالة «منظمة الشباب العربى الاشتراكى»- أكبر تجربة مصرية للتثقيف السياسى وتنشئة الكوادر فى النصف الثانى من القرن العشرين- وقد كان هو مسؤول التدريب فى سكرتارية المنظمة التى كان أمينها العام هو الدكتور «حسين كامل بهاء الدين»، وعرفت وقتها فى الدكتور «عبدالأحد» دماثة الخلق وطيبة القلب مع البساطة والتواضع وعفة اللسان التى ترتبط بشخصية ابن عمدة «شرشابة» من محافظة «الغربية»، لذلك لم أكن مندهشاً عندما رأيت الآلاف يحيطون بجثمانه لحظة الرحيل من مسجد «السلام» بمدينة نصر، وقديماً تباهى «الفقهاء العباسيون» بعبارة خالدة هى «بيننا وبينكم الجنائز»، فهى التى تكشف حجم الشعبية وتوضح القيمة الحقيقية لمن أصبح لا حول له ولا قوة. لقد جاء معظم رجال «وزارة الداخلية» تكريماً لابن شقيقه لواء «أحمد جمال الدين»، الوزير السابق المحترم، كما جاء معظم رجال «وزارة الخارجية» تكريماً لابنه السفير المتميز «إيهاب جمال الدين»، وتقاطر المئات ممن عرفوا الرجل طوال مسيرة حياته، خصوصاً أنه قد شغل مواقع متعددة، فقد كان مستشاراً ثقافياً فى «فيينا» و«باريس»، ومازالت الجالية المصرية فى «النمسا» تذكر الدكتور «عبدالأحد جمال الدين» باعتباره مؤسس «النادى المصرى» فى قلب مدينة «فيينا»، وقد كنت أشعر باعتزازهم الزائد به وأنا سفير هناك، كما كان رئيساً لاتحاد الإذاعة والتليفزيون، ورئيساً للمجلس الأعلى للشباب والرياضة، ووكيلاً لمجلس الشعب، ولعلى لا أذيع سراً إذا قلت إن اسمه كان مطروحاً لرئاسة المجلس بعد اغتيال الدكتور «رفعت المحجوب»، كما أننى أتذكر أن اسمه قد جرى طرحه مرتين بعد ذلك: الأولى كرئيس لجامعة عين شمس والثانية كمحافظ للجيزة، وقد ترأس بعد ذلك لجنة «الشؤون العربية» فى «مجلس الشعب»، ثم أصبح متحدثاً باسم الأغلبية البرلمانية، وقد حصل على مقعده البرلمانى أحياناً عن إحدى دوائر القاهرة، وأخرى عن دائرته فى مسقط رأسه، وقد حدثت بينى وبينه مشادة عابرة فى إحدى جلسات لجنة «العلاقات الخارجية» بمجلس الشعب، عندما تأخر ترتيبه فى الحديث لسبب خارج عن إرادتى، وأظنه كان على موعد مهم يدعوه إلى العجلة، ولابد أن أعترف الآن بأننى شعرت لحظتها بأننى أحمل له الحب والتقدير الذى لا يتراجع، فالعلاقة الوثيقة تدعو الصديق إلى النسيان والغفران، خصوصاً إذا كان الطرف الآخر بحجم وقيمة وتاريخ الراحل «عبدالأحد جمال الدين»، وهنا لابد من وقفة لتكريم رجل هو من نبت الأرض المصرية ومن طين ريفها العريق. كان محباً للناس مقبلاً عليهم خادماً لهم، ومازلت أتذكر عندما أوفدتنى أمانة «منظمة الشباب» عام 1966 فور تخرجى بأسابيع قليلة لكى أمثلها لدى شبيبة «جبهة التحرير الجزائرية» فى ذلك البلد الشقيق، ويومها زودنى الدكتور «عبدالأحد جمال الدين» بخطاب توصية لوزير الصناعة الجزائرى «بخروف»، الذى كان زميل دراسة له أثناء التحضير للدكتوراه فى الخارج، ولن يذكر الناس «لعبدالأحد جمال الدين» إلا أنه كان ودوداً بغير حدود، كريماً على نحو غير مسبوق، طيب القلب بشكل يعترف به كل من عرفه، ومازلت أرى أمامى دموع رفيق دربه وصديق عمره الدكتور «مفيد شهاب» وهو يتلقى العزاء فيه، وقد كست وجه «د.عبدالأحد» فى السنوات الأخيرة غمامة حزن منذ رحيل رفيقة حياته، ولم يعد إلى طبيعته بعد ذلك، ولقد أتاحت لى مناسبة ذلك العزاء الضخم أن أرى من بين من يطلقون عليهم لفظ «الفلول» شخصيات وطنية تستحق الاحترام، حيث أتذكر لها دائماً مواقف شجاعة فى مواجهة أخطاء العهد السابق وخطاياه.. رحم الله الدكتور «عبدالأحد جمال الدين» جزاء ما قدم لمصر الغالية.. أما أنتم أبناء وطنى فإننى أقول لكم إنه مخطئ ذلك الذى يصنف المصريين ويقسم صفوف ذلك الشعب العريق، «فليس كل الفلول شياطين، وليس كل الحكام الجدد ملائكة»! ولنتذكر أننا جميعاً بشر مثقلون بالأخطاء بغير استثناء، ولنتذكر أيضاً المقولة الخالدة «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»!
عبدالأحد جمال الدين
مقالات -