بدأ الإسلام ديناً يدعو إلى تحرير الإنسان من العبودية والخضوع لغير الله عز وجل.. وأصبح اليوم في نظر الكثير دينا يوجب على أتباعه الخضوع للرؤساء والعلماء مهما انحرفوا وبدلوا، وأصبح الناس اليوم يدعون إلى دين ممسوخ مشوه لا تنصلح عليه امة ولا تستقيم عليه ملة جر على العالم الإسلامي التخلف والانحطاط وشيوع الظلم والفساد وتسلط عصابات إجرامية لها سدنة من علماء السوء يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، ولم يكن هذا الانحراف بسبب الدين بل بسبب انحراف أوصياء الدين عن مبادئه وغاياته ومقاصده بالتأويل الفاسد والتحريف الكاسد.
الدين عنصر مؤسس من عناصر النهضة.. لكنه ليس شرط النهضة. ولا يمكن لأى مشروع نهضة أن يتجاهل الدين.. لكن يظل السؤال: أى دين؟ بمعنى أى فهم للدين؟ هل هو الدين الذى صنعته المؤسسات وتطور من الإيمان إلى العقائد إلى الدوجما أو الدائرة المغلقة التى لا تحتمل التفكير..؟!
المؤسسات تختزل الدين فى الحلال والحرام.. لكن الدين معطى ثقافى حى وفاعل.. والتراث عنصر أصيل من عناصر النهضة.. لا أحصر التراث الدينى فى الإسلام وحده.. هناك تراث من المسيحية واليهودية دخل فى تراث الإسلام.
المرعب هو استخدام الدولة للفكر فى مشروعها.. فتكون الدولة علمانية وهى تحارب الإرهاب، ودينية وهى تحارب المعارضة العلمانية، وإرهابية وهى تحجب الحركات الإسلامية.
لقد مرَّت على المصريين عقود عصيبة من القسوة المحلية والترحال والتسخير فى الغربة، وتشويه تراثها القيمى بجائحة من جراد بشرى حكم وتحكم وطغى وتكبر وتوحش وتفحش فى السنين الأخيرة، حتى حقَّت حكمة التحذير من غضب الحليم، ومصر الوسطية المتسامحة المتدينة الحلوة الطيبة الضاحكة الساخرة الصبور غضبت، بل تمرست بالغضب من فرط فجاجة دفعها إلى الغضب.
ليس من قبيل التطرف أو التبسيط، ولا هو من باب الوهم أو التسطيح، أن سمة الاعتدال من أبرز السمات العامة الأساسية للشخصية المصرية، فالوسطية والتوازن سمات رئيسية عريضة فى كل جوانب الوجود المصرى تقريبا، الأرض والناس، الحضارة والقوة، الأخذ والعطاء.
قد كان أمرا محتوما أن تكتسب الشخصية المصرية صفات الاعتدال والاتزان والوسطية، وأن تتفاهم مع الدين بهذه المفاهيم العميقة، وأى فهم للدين خارج نطاق هذه الحدود إنما يمثل انكسارا فى الشخصية المصرية، وهو على أبسط الفروض، حالة مَرضية تحتاج إلى علاج وصبر حتى تعود الشخصية المصرية إلى طبيعتها.
إنصبَّت الديانات السماوية جميعا فى مصر على التوالى، ولعبت مصر فى مراحل الدعوة إلى ثلاثتها دورا أو آخر، فكانت لموسى قاعدة ومنطلقا، ولعيسى ملجأ وملاذا، بينما كانت مع النبى محمد هدية ومودَّة.
فى تلك الهبة المصرية الملايينية المذهلة، لم يكن عسيرا أبدا أن أتبين تهافت نسبة الخارجين عن الوسطية الذين ملأوا حياتنا تهديدا ووعيدا فى هوجة الشهور الأخيرة، حتى بتنا ننتظر من سيفرض علينا نمطه من الثياب والمظهر وطريقة العيش، ويسوقنا للتعبد على طريقته ولو بالتقريع والمقارع وكأن مصر كافرة وفى حاجة إلى دين جديد.
ما يحدث الأن بين هؤلاء الخارجين على الوسطية من تيارات الإسلام السياسي من تراشق بالإلفاظ وصل إلى حد تكفير بعضهم البعض والإتهامات المتبادلة بيهم بالعمالة والخيانة.. جعل هذا الجئير وذلك الحشد سرعان ما تبديا على حقيقتهما كمحض هبة من غبار زوبعت فوق نهر الوسطية المصرية الكبير وهو كامن، وعندما فاض ذلك النهر تساقط الغبار على صفحته الجارية فتبدد، دون أن يفقد النهر عذوبته وصفوه.