أدخل مبارك وعصابته مصر إلى الثلاجة.. حوَّلوها إلى دولة ساقعة جمَّدوا عقلها وجرَّفوا روحها وسلبوها معظم فوائدها كدولة، فى محاولة لنزع الغضب وتحويل مواطنيها إلى أشباه بشر باردين لا يغضبون ولا يثورون. استخدم المجرم المخلوع ونظامه المدارس لخرط عقول الأجيال التى وُلدت وتربَّت فى عهده على شكل دجاج مجمد، استخدموها كأداة للضبط الاجتماعى الذى كان يصل إلى ضبط إيقاع الأمعاء الغليظة للطلاب على مواعيد جرس الفسحة لتتم المزاحمة حتى على الحمامات الرديئة ناقلة الأمراض..
واستخدموا المستشفيات مراعىَ للقتل (مع الاعتذار للروائى الكبير فتحى إمبابى) وتجارة البشر جملة وقطاعى، واستخدموا الإعلام والثقافة ومنابر المساجد للإجهاز الكامل على الأمل، ولإرسال البشر فى رحلات إلى أزمنة أخرى أو أماكن أخرى، إلى الماضى الذى أنتج تلك الطغمة التى رأت نفسها كزبدة المجتمع وأرقى كائناته.
أفسدوا الحياة كلها ففشلت الدولة.
فشلت فى أن تدَّعى حتى كونها دولة، وفى المقابل تم إعلاء شأن النظام وتحويله إلى وثن يدافع عنه الجميع، حتى المعارضة التى كانت تقول عن نفسها إنها جزء من النظام، محاولة التقرب إليه زلفى بالنفاق (على ألسنة رموز الحكم الحالى وغيرهم) أو بمنحة ورقة التوت عبر المشاركة فى ما كان يسميه انتخابات.
كان مبارك يتحدث عن احترام القضاء ويقتل سيادة القانون.. كان يتحدث عن احترام العلم ويقضى على التعليم.. كان يتحدث عن التنمية ويقتل الإنسان، ومع ذلك كان المعارضون له -وفى القلب منهم جماعة الإخوان المسلمين التى كان يسميها المحظورة- يرون أنه صمام الأمان والحصن الحصين وأصلح من يحكم مصر.
وكان فشل النظام الإدارى لدولة مبارك هو التجلى العظيم الذى اعتمد الفسادَ آليةً لكسب العيش لدى صغار الموظفين، فأفسد حتى الخطط الأمنية، فعلى سبيل المثال، أصدر حسين كامل بهاء الدين عندما كان وزيرا للتعليم بالاتفاق مع الحكومة قرارا بضرورة حصول المعينين الجدد فى التعليم على موافقة جهاز أمن الدولة، فى محاولة لمحاصرة سيطرة الإرهابيين على التعليم، وفى التطبيق العملى للقرار كان الخريجون يحصلون على التقرير الأمنى فى مقابل 150 جنيها لِصُول التحريات فى أمن الدولة، فى حالة تزاوج مريح بين الفشل والفساد.
توافق الإخوان مع جهاز أمن الدولة ومع رموز الحزب العصابة فى الانتخابات، وفى نفس الوقت كان مرشدهم يقول مقولته الشهيرة «طظ ف مصر»، ولأن المهم هو النظام لا الدولة، مر الأمر بسلام. كانت عصابة مبارك ترتب سيناريو التوريث والجماعة وافقت، ثم جاء مبارك فى حكومة نظيف الأخيرة بعدد من الوجوه التى قال الجميع معها (كده النظام خلّص كل اللى عنده وجاب آخره)، جاء بوزير للتعليم (مثلا) تسبب بغبائه فى موت يومى للمعلمين لمدة أسبوع فى امتحانات الثانوية العامة 2010، وكان أشهر ما حدث فى عهده هو العثور على قطة مذبوحة فى سلة المهملات أمام مكتبه، جاء بوزير شاب للتنمية الإدارية وسمعته فى حديث للطلاب الأوائل فى الجامعات يتحدث عن ضرورة التفوق وضرورة بذل الجهد، مقارنا بالأرقام بين مصر وغيرها من البلدان، ومؤكدا أن هؤلاء الشباب هم الأمل، وعندما سأل الشباب عن فرص العمل بعد تخرجهم كان رد الوزير الرقمى هو: فرص العمل دى رزق، وفى موضوع الرزق ده بقى كانت أمى دايما تردد الآية الكريمة «ومن يتقِّ الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب». جاء بوزيرة للقوى العاملة ليكون أشهر ما وقع فى عهدها هو تقبيل يد زوجة رئيس الجمهورية.
كانت الحكومة الأخيرة مكوَّنة من أشخاص معدومى الموهبة والرؤية والخيال، ولكنهم فاسدون ومطيعون، وظن الجميع وقتها أن هذا هو آخر طور من أطوار الدولة الساقعة/ المجمَّدة/ المستقرة/ الفاشلة، وتوهم حسنو النية أن الوريث يخبّئ الكوادر المدرَّبة، لكى يبدو عندما يرث أن هناك تطورا فى الكفاءة، وعندما بدأت الثورة تمت مواجهتها بثورة من الأعلى، ليظل سدنة معبد النظام اللا إنسانى الفاشل فى مواقعهم، مضحِّين بأكبرهم، ومحوِّلين الصراع إلى صراع شخصى، تتم فيه التضحية بأشخاص كقرابين للنظام. بدأت الثورة بهتاف الشعب «يريد إسقاط النظام»، وعندما نزل الإسلاميون إلى الميادين تحور الشعار إلى «الشعب يريد إسقاط الرئيس»، وما تبعه من هتافات شعبوية من قبيل «دلعو يا دلعو.. مبارك شعبه خلعه» أو «قولوله لأ.. ده فاضله زقة»، وتوارى شعار الثورة الرئيسى «عيش.. حرية.. كرامة إنسانية» إلا قليلا.
وعندما جاء العسكر أتوا بمن سماهم الناس حكومة الثورة أو حكومة الميدان، وفشلت، ثم حكومة الجنزورى وفشلت، والانتخابات البرلمانية وأتت بكوادر تقع عليها صياغة تشريعات ثورية والعمل كبرلمان للثورة، فوجدنا نائبا للأذان، وآخر للأنوف، وثالث للطرق الزراعية وعتمتها، وجاءت الانتخابات الرئاسية وجاء الكادر/ العالِم/ الخبير/ بتاع ناسا/ حافظ كتاب الله، بمشروع نهضته المهندَس وراثيا كطائر/ قطار/ سفينة، وجاء معه بقنديل وحكومته، وانتظرنا خروج مصر من الثلاجة، وانتظرنا تغيير النظام، لكن الشواهد تقول إن الرئيس النهضوى يحاول جاهدا حشر مصر فى ثلاجة أصغر حجما، وإحكام الباب على الدولة.
وجدنا الأسوار تنتشر حول الأماكن الحساسة، وجدنا الطظ فى مصر تتحول إلى تطبيق عملى لصالح النظام، وجدنا فشلا وراء فشل رغم تغيير الوجوه، واستهانة بكرامة المصريين وأرواحهم، وجدنا كائنات غريبة لها شكل البشر وعقول القطارات وانقضاض آكلى الجيف تهدد وتتوعد وتقتل وتخطف وتدخل البلاد فى متاهة لصالح النظام، اكتشفنا أن الدولة الساقعة ما زالت قابلة لتطوير نفسها، وأن فشلها وانحطاطها متجدد، ولكننا اكتشفنا أيضا أن أطوارها تزداد فشلا وانحطاطا، والآن يحاول أجمل من فينا أن يسقط النظام وأن يحطم الثلاجة وأن يؤسس لدولة جديدة ونظام جديد لا يحكم فيه ولا يتحكم من تعفن بفعل البقاء طويلا فى الظلام وفى ثلاجة كانت الكهرباء تنقطع عنها وتعود إليها، نظام لا يموت فيه المصريون مهروسين تحت القطارات أو متعاركين على وقود أكل عيشهم، ولا يتم فى خرط المستقبل على شاكلة الماضى، ولا تكون فيه الخرسانة أعظم من الإنسان.