اتصل بى منذ أيام أحد الصحفيين الشباب، مُستفسراً عن الدور القطرى فى دعم حركة حماس الفلسطينية، وعلاقة هذه الأخيرة بجماعة الإخوان المسلمين عموماً، وبالرئيس محمد مُرسى خصوصاً. وكانت مُناسبة السؤال نشر وثيقة صادرة من مكتب رئيس الوزراء القطرى، الشيخ حمد بن جاسم آل ثان إلى البنك المركزى القطرى بتحويل مبلغ مائتين وخمسين مليون دولار، لحساب حركة حماس، لتقوم هذه الأخيرة بتقديم الحماية للرئيس المصرى محمد مُرسى!
ولأننى لم أطلع على الوثيقة مُباشرة، ولا أعلم مدى دقتها، فقد تحفظت على الإدلاء برأى فيها. ولكن الصحفى الدؤوب قرأ الوثيقة لى هاتفياً (تليفونياً)، وألح علىّ فى التعليق عليها. ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتم فيها توجيه أسئلة مُشابهة عن العلاقات بين دولة قطر وجماعة الإخوان المسلمين. وفى خلفية هذه الأسئلة قلق مشروع من تدخل قطرى فى الشؤون المصرية، وغيرة شوفينية غير مشروعة حول دور دولة عربية صغيرة، مثل قطر، تزاحم به دور الشقيقة الكُبرى مصر، عربياً وإقليمياً!
ولأننى أقمت بدولة قطر، عدة سنوات، أثناء المنفى فى عهد الرئيس مُبارك، فإن عدداً من الصحفيين المُخضرمين الذين يعرفون هذه الحقيقة، يعتقدون أننى أصبحت حُجة أو خبيراً فى تفسير السلوك القطرى، والسياسة الخارجية القطرية.
وحقيقة الأمر أن هناك طموحاً قطرياً مشروعاً، للقيام بدور إقليمى، خليجياً وعربياً ودولياً. وتفسير هذا الطموح المشروع يستند إلى عاملين ملحوظين:
العامل الأول، هو الثراء الكبير لدولة قطر. فهذا البلد العربى الصغير سُكاناً، الذى لا يتجاوز عدد مواطنيه مليون نسمة (وتحديداً 750.000) ولا تتجاوز مساحته (اثنى عشر ألف) كيلو مترا مُربعا، يرقد على بحر من البترول والغاز الطبيعى، وهو ما يجعل متوسط الدخل الفردى السنوى لمواطنى قطر 88 ألف دولار. وهو الأعلى عربياً وعالمياً. فهو أعلى من نظيره فى الكويت (39 ألف) دولار، والسعودية (12 ألف) دولار. والولايات المتحدة (38 ألف) دولار، وهو ما يزيد على عشرين مثال الدخل الفردى السنوى فى مصر.
الفوائض المالية القطرية، أى مُدخرات الدولة وصناديقها السيادية تصل إلى 190 مليار دولار.
وهذه الفوائض هى التى مكّنت قطر من أن تنقذ اليونان وإسبانيا من الإفلاس، قبل عدة سنوات. كما مكّنتها هذه الفوائض المالية الضخمة من أن تشترى أكبر وأشهر متاجر لندن وباريس ونيويورك. هذا فضلاً عن أن قطر هى أكبر مستثمر خارجى فى كل من المغرب وتونس. أى أن الثراء النفطى والفوائض المالية الضخمة هى التى مكّنت دولة قطر من أن تصبح قوة اقتصادية عالمية مرموقة. وتخطب كثير من البُلدان النامية مودة قطر، لكى تستثمر فيها أو تودع بعض فوائضها البنوك المركزية لهذه البُلدان. وقد حدث ذلك من مصر، نفسها، حيث أودعت قطر أربعة مليارات دولار البنك المركزى المصرى، فى أوائل عام 2013.
أما العامل الثانى للدور الطموح الذى تلعبه قطر خليجياً، وعربياً، وعالمياً، فهو النخبة الحاكمة المُتميزة، خاصة ثالوث الحكم، الشيخ حمد بن جابر آل ثان، وحرمه الشيخة موزة بنت ناصر المُسند، ورئيس الوزراء الشيخ حمد بن جاسم آل ثان. فهذه النُخبة هى الأكثر تعليماً، مثلها مثل النخبة الأردنية ـ حيث تلقت تعليمها فى أرقى الكُليات العسكرية ـ مثل هارو البريطانية، ووست بوينت الأمريكية، ثم فى أرقى الجامعات المدنية مثل أكسفورد، وكمبردج، وهارفارد، وبرنستون، وبيل.
ومن حصافة النُخبة الحاكمة القطرية أنها على علاقة ودية مع كل بُلدان العالم، بما فى ذلك تلك المُتنافسة، مثل السعودية وإيران، أو تلك المُتصارعة، مثل حماس وإسرائيل. ومن ذلك، أيضاً، تلك العلاقة المُعقدة مع الولايات المتحدة. فبينما لا تكف قناة الجزيرة الفضائية القطرية عن مُهاجمة الولايات المتحدة، ليلاً ونهاراً، فإن الحكومة القطرية سمحت بتأجير أكبر قاعدة جوية خارج الولايات المتحدة لنفس الولايات المتحدة الأمريكية. وحينما سألت أمير قطر، منذ عدة سنوات، أن يُفسر هذا التناقض فى السياسات، قال بلا تردّد: المصالح المشتركة، وشرح لى الأمر كالتالى:
ونفس هذه القدرة القطرية على التعامل مع المتناقضات، هى التى جعلت قطر ملجأ لكثير من المُعارضين العرب. فقد استضافتنى خلال سنوات الشقاق والعداء والمُطاردة مع نظام حسنى مُبارك (2000-2011). وكذلك استضافت الفلسطينى الماركسى عزمى بشارة، وعضو الكنيست الإسرائيلى الأسبق، بعد أن قدمته حكومة تل أبيب للمُحاكمة بتهمة التجسس لحساب سوريا.. كذلك فتحت قطر أبوابها لعُلماء الذرة العِراقيين بعد سقوط نظام صدام حسين، كما أنها عرضت على أحمد زويل، المصرى ـ الأمريكى، صاحب جائزة نوبل، أن تبنى له المدينة العلمية، التى كان يحلم بها، ولكن تعثر تنفيذها فى مصر، لأسباب بيروقراطية وسياسية ضيقة. وتم الانتهاء من بناء المدينة، وجذب مئات العُلماء العرب، وتشغيلها فى غضون ثلاث سنوات.
وحينما كتب أحد رؤساء تحرير صُحف حسنى مُبارك، واصفاً قطر بأنها أصبحت «مأوى المطاريد العرب»، قالت لى الشيخة موزة بنت ناصر، حرم أمير قطر«إننا فى قطر الآن، لا نفعل إلا ما كانت مصر تفعله فى سنوات مجدها فى الماضى.. وإنها هى وأسرتها من آل المُسند، لجأوا إلى مصر، حينما تعرضوا للاضطهاد فى قطر نفسها، قبل أربعين عاماً.. وإن ما تفعله قطر لمواطنين من مصر، وفلسطين، وليبيا، وتونس، واليمن هو مُجرد ردّ الجميل». فسبحان الله.
وعلى الله قصد السبيل