عدد من المثقفين وجدوها فرصة لكى يصنعوا منه بطلًا وهو فى نفس الوقت كان يحرص على أن لا يظهر فى أى قناة فضائية أو يدلى بأى حديث صحفى ليقول رأيًا يُحسب عليه، تركهم يقولون ويفسِّرون ويزايدون على وطنيته المفرطة بينما هو أمام الإخوان لم يقل شيئًا ضدهم، وأمام المثقفين لم ينفِ شيئًا مما قالوه عنه، هو فقط عاد قبل يومين لممارسة عمله بهمة ونشاط، عاد الوزير إلى الشجرة، أقصد شارع شجرة الدر بالزمالك، حيث مقر وزارة الثقافة.
قبل العودة حرص على أن يشير عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية إلى أن كبار موظفيه كانوا يترجّونه من أجل أن يتراجع بعد أن صاروا يتامى من بعده، واستمع الجيران إلى صوتهم الباكى وهم يغنون له «إحنا من غيرك ولا حاجة وناقصنا كام مليون حاجة»، لو راجعت كتابات عدد من المثقفين سوف تجدهم يزايدون فى الحديث عن الرجل الوطنى الذى لم يرضَ ضميره على سحل المواطن حمادة صابر وهو يشجب ما حدث أمام قصر الاتحادية من استخدام مفرط للقوة ضد الشباب الثائر، ولهذا تقدَّم باستقالته، كل هذا أثبتت الأيام أنه مجرد كلمات لمغازلة الرأى العام بينما الوزير فى الحقيقة كانت حبال الود قائمة بينه والدولة، وكان يحرص بين الحين والآخر على أن يتم تسريب خبر ينشر فى الجرائد القومية، يؤكد أنه لم يدل بأى شىء ضد النظام الإخوانى.
صابر عرب مثل أغلب المثقفين سعيد بامتلاكه الكرسى وأمامه بضعة أشهر أخرى وقد تمتد إلى ما هو أكثر، فلقد تأكد أن رئيس الجمهورية سيبقى على الوزارة كما هى بالإضافة إلى أن قوى المعارضة لا تمتلك القدرة لإجبار مرسى على إزاحتها مقابل الجلوس على طاولة التفاوض، ولهذا قرَّر أن يراهن هذه المرة على مرسى. الوزير طوال الأسبوع الماضى كان فاصل شحن، خارج نطاق الخدمة، لأن موازين القوى لم تكن قد اتّضحت بعد، ثم اكتشف أن قوة «فولت» النظام أقوى من «فولت» المعارضة، وتم إيصال كبس الإخوان الكهربائى إليه فعاد كما هو مبتسمًا منتشيًا، الرجل تعوّد على أن يقيس الأمر بمصلحته الخاصة وما الذى يحصده من الاستقالة حتى يصر عليها. وسوف تقرأ لعدد من الكتاب مجددًا وهم يؤكدون أن الرجل كان نبيلًا فى استقالته وكان أكثر نبلًا عندما تراجع عنها. كتبوا أن الوزير تقدم باستقالته لأنه لم يرضَ أن يُسحل مواطن فى وزارة ينتمى إليها، فلماذا عاد وحمادة لا يزال يعانى من أعراض السحل؟ هل اتّضح مثلًا أن النظام باس الواوا لحمادة، فقرر الوزير أن ينسى الواوا؟الاستقالة دائمًا فى جيب صابر، فعلها قبل ثمانية أشهر عندما وجد أنها الطريق الوحيد الحتمى للحصول على جائزة الدولة التقديرية، فتقدَّم باستقالته وأصر عليها من حكومة الإنقاذ الوطنى قبل أسابع قليلة من إعادة تشكيلها واستحوذ على الجائزة بعد أن أمضى عدة أشهر فى الوزارة يعيد ضبط كل الأمور فى تفاصيلها لكى يضمن أن تؤول الجائزة إليه وكان على ثقة مطلقة بأن هناك تواطؤًا من المثقفين على تلك الفضيحة، وعندما عاد وزيرًا وقتها لم ينتقده أحد وسوف يعتبره بعضهم هذه المرة بطلًا عاد إلى مكتبه، لكى يواصل معركته فى الدفاع عن المثقفين وأنه سيستمر فى البقاء داخل نفس الخندق.. أغلب المثقفين فى مصر رماديون، هؤلاء يشكلون الخطر الأكبر على الثقافة والوطن، خطابهم العام المعلن غير ما يفعلونه فى الكواليس. المأساة التى نعيشها ليست فى الوزير، ولكن فى القطاع الوافر من المثقفين الذين نراهم على مقربة من السلطة، بينما يحرصون على التصدير للرأى العام صورة أخرى تؤكِّد أنهم قابعون على الشاطئ الآخر.
المثقفون مع الأسف فى بلادنا لعبوا دورًا فى بقاء فساد مبارك ثلاثة عقود، لأنهم كانوا قادرين على التعايش مع فساد السلطة فى كل مواقعها وتفاصيلها، ما دام هناك مَن يدفع ويمنح فهم معها، نفاق مبارك مارسه أغلبهم والأرشيف مثل قطنة أبلة نظيرة مايكذبش، مواقفهم الآن تبدو أكثر رفضًا للسلطة الحاكمة، وذلك لأن السلطة نفسها لم تتمكن من السيطرة الكاملة، ولهذا لا تزال أمامهم مساحة تمكِّنهم من إعلان المعارضة، بينما لو تمكَّنت السلطة سوف تكتشف أنهم أول مَن سيقومون بتوفيق أوضاعهم وسيصعدون جميعًا مع وزير الثقافة فوق الشجرة!!