ينتاب بعضَنا وهْم العدد حين يتخيَّل أن مشكلة عدم استجابة مرسى وإخوانه لمطالب القوى الوطنية سببها قلة عدد المشاركين فى المظاهرات، وأنها ليست مظاهرات مليونية ولا يشهد الميدان احتشادًا بل عدة آلاف فقط.
هذه وجهة نظر تعتمد على تثبيت مشاهد ثورة الثمانية عشر يومًا أساسًا للمقارنة واعتمادها شكلًا وحيدًا للتأثير الناجح.
دعنا نؤكِّد أن هذا التصوّر يقع فى وهم العدد.
لماذا؟
أولًا، دعنا لا ننسَ أن ثورة يناير خلال الثمانية عشر يومًا شهدت أعمال شغب وعنف لا يمكن إنكارها، فنحن نتوقَّف فقط عند جمال وروعة المظهر المشرق فى ميدان التحرير، لكن لنتذكَّر ما جرى فى محيط المتحف المصرى، ثم إحراق مبنى الحزب الوطنى، ثم الاعتداء على مقرات شركات ومحلات أعضاء بالوطنى، ثم محاولات نهب وإحراق تمت فى «كارفور» و«هايبر» مثلًا، ثم الأهم عنفًا كان حول تسعة وتسعين قسم شرطة فى محافظات الثورة، حيث محاولات الاقتحام والإحراق، ومنها ما نجح ومنها ما أسقط قتلى، واندلعت فى المبانى النار، خصوصًا مع إشعال عشرات المركبات التابعة للأمن المركزى والبوليس فى شوارع القاهرة والمحافظات، ونضيف إلى هذا اقتحام السجون وهدم أسوارها وتهريب سجنائها، بمن فيهم أشهر سجين هارب الذى صار رئيس الجمهورية بعد ثمانية عشر شهرًا من هروبه، ولعلّكم تتذكرون ظاهرة اللجان الشعبية التى جاءت سدًّا لغياب الشرطة ومواجهة لهجمات لصوص وبلطجية تروِّع الآمنين.
معظمنا يتجاهل تمامًا هذه الأحداث، كى تثبت لديه صورة الميدان السلمى المدهشة، ويغيب عنا أن السبب الرئيسى لتنحى مبارك كان فقدان ذراعه الأمنية وخذلان ذراعه العسكرية، وليس أبدًا احتشاد الميدان وحده.
ثانيًا، أن ملايين خرجوا ضد مرسى عقب إعلانه الفرعونى، بل وكان قرابة مليون متظاهر تحت بلكونة قصر الاتحادية يومها، وتلا ذلك مئات الألوف فى ذات المكان وفى التحرير والإسكندرية والسويس وغيرها، فماذا جرى من الإخوان إلا العمى الكامل عن رؤية الحشد، بل والانتقاص منه، والحديث عن أنهم خمسون ألفًا، وثمانون فى المئة منهم أقباط. إن العدد مهما زاد فسيكون قليلاً أمام غطرسة وعمى الإخوان وغرور الجماعة التى تعتقد أنها قادرة على جلب أنصارها بالأوتوبيسات فى ميدان الجامعة، ثم الزعم بمنتهى اللطف أنهم خمسة ملايين.
إن لعبة الأعداد لن تُجدِى إطلاقًا مع فصيل لا يتمتع بدهشة الصدمة التى أصابت مبارك من العدد الضخم.
ثالثًا، الذى يعتقد أن مرسى سوف يستجيب، وأن «الإخوان» ستعود إلى رشدها لو خرج بكرة الصبح خمسة ملايين متظاهر، هو واهم تمامًا، فالإخوان سيتحدَّثون ساعتها بالاستخفاف بالعدد وتخفيضه فى تقديراتهم، ثم عن قدرة حشد مضادة وعن عدم تمثيل هذا العدد للشعب وعن الاحتكام إلى الصناديق.
رابعًا، لن يتأثر الإخوان إلا عندما يدركون خطرًا من الغرب الضامن والمتحالف معهم، خصوصًا الأمريكان، ومن الجيش إذا تململ وشعروا بعدم الاطمئنان لتحرّكه، ثم الأهم من ذلك، لو فقدوا ولاء وزارة الداخلية، فهى أهم سلاح لهم الآن يمارسون به التصفية الجسدية والاغتيالات للشباب الثورى والخطف والتعذيب والاحتجاز والاستنزاف، والداخلية عادت بمنتهى البشاعة للممارسات الوضيعة، كأنها واحشاها، وفى اللحظة التى تُغيِّر فيها الداخلية ولاءها ستكون لحظة تغيير الجيش ولاءه ضد مبارك.
المؤكد أنه لو استمرت قوة الداخلية بعد جمعة الغضب ضد مبارك ولم يتم الاعتداء على أقسام الشرطة والسجون ما كان مبارك كما مرسى يهمُّه عدد المتظاهرين أبدًا.