لا حديث فى تونس هذه الأيام إلا عن أربعة من مواطنيها، ملأوا الدنيا هناك وشغلوا الناس، فلا تكاد تطالع صحيفة حتى تصادفك صورهم فى الصفحة الأولى، ولا تكاد تتطلع إلى شاشة حتى تكتشف أن الكلام يبدأ بهم، وينتهى أيضاً!
أما الأول فهو شكرى بلعيد، السياسى التونسى الذى سقط شهيداً يوم 6 فبراير الحالى، حين أطلق عليه مجهول ست رصاصات، أمام بيته، ثم لاذ بالفرار، وقد كان «بلعيد» خصماً عنيداً لحركة «النهضة» الإسلامية التى تحكم البلد، ولذلك اتجهت الأنظار أول ما اتجهت إلى «النهضة» وقيادييها، ورئيسها راشد الغنوشى، وراح كثيرون يوجهون إليها وإليهم أصابع الاتهام، رغم أنه لا دليل حتى الآن على تورطها أو تورط واحد منها فى الجريمة، التى قلبت تونس رأساً على عقب، ولاتزال!
صحيح أنه يقال فى علم الجريمة، إنك يجب أن تبحث أول ما تبحث عند وقوع أى جريمة عن المستفيد من وقوعها، وصحيح أن «النهضة» كان يهمها أن يتوقف هجوم «بلعيد» الحاد عليها، وأن يكف عنها قذائفه، التى كانت تنال منها، فى كل صباح، ولا تعرف معها استسلاماً ولا تراجعاً، ولكن الأصح منه أنها لا يمكن أن تتورط فى جريمة كهذه، وهى تعرف مسبقاً أن الاتهام فيها سوف يتوجه أولاً ومباشرة إليها!
فى كل الأحوال، فإن تداعيات وقوع الجريمة قد غطت على كل ما عداها، وجعلت جميع الأطراف تعيد ترتيب أوراقها من جديد، لأنها الجريمة الأولى من نوعها منذ استقلال تونس عام 1956، وقد كان اللافت فى الموضوع أن المجتمع التونسى قد انتفض ضد الجريمة ومرتكبيها، ربما كما لم ينتفض من قبل، إلى الدرجة التى خرج معها فى جنازة الرجل مليون ونصف المليون تونسى تقريباً، وإلى الدرجة التى تحول الموقع الذى سقط فيه بلعيد، أمام بيته، إلى ما يشبه المزار وامتلأ عن آخره بباقات الورود، ولايزال!
أما بسمة بلعيد، فهى الشخص الثانى الذى أثار انتباه المجتمع التونسى كله لأبعد مدى، وقد واجهت هى ما جرى بصلابة، كانت مثار إعجاب الجميع، وراحت تتحرك فى كل اتجاه وتتكلم من فوق كل منبر، ليتبين للذين غدروا بزوجها أنهم حين غيبوه فإن الله قد أحياه فى صورة زوجته، وأنه لم يمت، كما تصوروا، وأن قضيته تكبر كل يوم، وأن أفكاره تزداد انتشاراً عما كانت فى حياته!
وفى الفترة نفسها التى سقط فيها «بلعيد» مضرجاً فى دمائه، كان رجل شرطة اسمه لطفى الزار يقاوم بعض الذين حاولوا السطو على محل تجارى، فقذفه أحدهم بحجر، فسقط فى الحال، وتحول الشرطى فى لحظة إلى بطل، وتبنت الصحافة التونسية قضيته، ولم تفرق بينه وبين بلعيد، فكلاهما دفع حياته ثمناً لإصراره على أن يؤدى مهمته إلى آخرها، مهما كانت العواقب، وكلاهما دافع عن حق بلده فى أن يعيش كريماً، إلى آخر دقيقة فى حياته، وكلاهما لم يكن يبالى، وهو يقف بقوة فى وجوه الذين يريدون أن يعودوا بتونس إلى الوراء، وأن يسرقوا ثورتها، ويخطفوا ثمارها.
وفى لحظة، قامت بسمة بلعيد، وغادرت بيتها، واتجهت إلى بيت عفاف الزار، وظلت تواسيها، مع أنها ـ أقصد بسمة ـ تظل فى حاجة إلى من يواسيها هى الأخرى، وحين سألوها، قالت إن زوجها سقط وهو يواجه لصوص الفكر، وإن لطفى الزار سقط وهو يواجه لصوص الخبز، وإن كليهما ضحى بنفسه فى سبيل أن تكون تونس كبلد فى الموقع الذى يستحقه!
شكرى بلعيد، ومعه بسمة، ثم لطفى الزار، ومعه عفاف، كانوا ولايزالون حديثاً فى كل ركن، وكانوا ولايزالون أيضاً هم الفكرة التى وحدت بين التونسيين بشكل ملفت فعلاً، وعجيب!.. وإذا كان هناك شىء قد كشفت عنه القصة فى إجمالها، فهو أن المجتمع فى تونس، كما لمست بعينى وأحسست بنفسى، مصمم على أن يعيش عصره، ورافض تماماً، شأنه شأن مجتمعنا فى مصر، لكل عنف، تحت أى مسمى وكل إرهاب للآخر تحت أى شعار، وأنهما «مصر وتونس»، يجاهدان ببسالة لا تعرف المهادنة فى أيامنا هذه من أجل قضية واحدة.. قضية أن يكون كل بلد منهما أو لا يكون!