لا يعرف كثير من المصريين ماذا يخطط الإخوان لمصر، وما نوع النهضة التى يعِدون بها، وما إذا كانوا على استعداد لتداول السلطة، وماذا يدبرون لمعارضيهم.. هذا الجهل بأجندة الحكم ومآربه هو الذى فتح الباب لتخمينات الإعلام وافتراضاته.. الإخوان تركوا المواطن الحائر واشتبكوا مع الإعلام، والإعلام تعامل مع تخميناته على أنها مسلَّمات، وجعل منها المادة الخام لنشراته وبرامجه! «الضبابية» هى البلاء الذى تعانى منه مصر حاليا. كل ما عدا ذلك من تسميات هو من قبيل التعتيم على الحقيقة، أو الهروب منها، أو الجهل بها.
بنفس هذا القدر من الضبابية، ينظر الإسلاميون فى مصر إلى تركيا.. يحلمون بأن يضارعوها فى التأثير على شؤون ومقدرات الإقليم، وتحدى القوى العظمى، ومناطحة إسرائيل، كيف؟ لم يتلقَّ الشعب المصرى من الإخوان أى إجابة.. لا نعرف ما الوسيلة التى تضمن للإخوان تحقيق الاستقلال فى الإرادة والقرار السياسى مثل تركيا، وهم لا يزالون يركضون خلف قرض صندوق النقد الدولى، رغم ضآلة حجمه الذى لا يتجاوز 4,8 مليار دولار، مقارنة بالعجز فى ميزانية الدولة الذى بلغ 20 مليارا قابلة للزيادة، ورغم أنهم لا يمانعون فى استمرار المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية لمصر، بل يحيون على أمل توسيعها كما أوحت لهم هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية خلال اجتماعها فى نيويورك بالرئيس مرسى فى سبتمبر من العام الماضى.. فهل لبدء تنفيذ خطة محاكاة تركيا رغم كل ذلك موعد لا نعلمه لم يأتِ بعد؟ وهل للشعب المصرى دور فيها، أم سيلعب الإخوان كعادتهم كل الأدوار؟
أغلب المصريين يظنون أن هذه الخطة غير موجودة أصلا، أو ربما غير جاهزة.. فحتى صباح 31 مارس 2012 لم يكن مجلس شورى الإخوان قد قرر من ستدعم الجماعة فى انتخابات الرئاسة، وحين استقر المجلس على المهندس خيرت الشاطر، سرعان ما حال موقفه القانونى دون المضى قدما فى حملته، فاستبدلت به الجماعة فى 17 أبريل الدكتور محمد مرسى، الذى انهمك فى حملة دعائية مكثفة على مدار أقل من 70 يوما حتى وصل إلى المنصب عبر جولتين من الانتخابات، ومنذ ذلك الحين هو غارق فى معارك سياسية محتدمة مع منافسيه الليبراليين، أكثرها من افتعاله لاعتقاده الدائم بوجود مؤامرة لإسقاطه، فمتى سيجد الوقت هو وحكومته ومكتب الإرشاد للتفكير فى خطة تاريخية مصيرية لتحويل وجهة البلاد إلى نفس الطريق الذى قطعته تركيا؟
لم يكن المصريون قد أدركوا هذا الفراغ فى جعبة المرشح الرئاسى الفائز حين انتهى لقاؤه الأول بعد تنصيبه بوزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو مساء 2 يوليو من العام الماضى.. كانت الخصومة التقليدية بين الإسلاميين والليبراليين الثوريين فى مصر آنذاك خامدة، بعد أن أنجز الطرفان هدفا مشتركا بالتخلص من «مرشح النظام السابق» أحمد شفيق.. شعر الجميع بالامتنان والاطمئنان حين قال أوغلو بالنص إنه قدّم للرئيس مرسى ورقة بيضاء، وطلب منه أن يخطّ فيها بيده ما يريده من تركيا حتى تلبيه له على الفور.
التقى الرئيس التركى عبد الله جول نظيره المصرى محمد مرسى فى أعقاب مشاركتهما فى القمة الإسلامية التى استضافتها القاهرة يومى 6 و7 فبراير، فماذا عساها أن تكون مطالب مرسى التى خطّها فى ورقة أوغلو؟ إذا كانت خطة «النهضة» المصرية على الطريقة التركية غير جاهزة، فهل نتوقع مجرد استغاثة مكررة لدفع عجلة الاقتصاد المنهار قبل أن ينفد ما تبقى فى خزانتنا من احتياطى العملة الأجنبية؟ أم تأكيدا مزيفا بأن الوضع الأمنى تحت السيطرة لاستعادة الاستثمارات التركية المشروطة بالاستقرار؟ أم استشارة سياسية فى كيفية التعامل مع ما يعتبره الإخوان نسخة مما جرى فى تركيا، وعرف فى إعلامها منذ عام 2003 باسم «قضية أرجاناكون»، التى اتهم فيها الحزب الحاكم عشرات القضاة والضباط والسياسيين والصحفيين ورجال الأعمال بمحاولة الانقلاب على الحكم وخلق اضطرابات عامة، وتم تقديمهم للمحاكمة؟
الحقيقة أن هوس النموذج التركى لدى إخوان مصر يقيد إبداعهم السياسى، ويجعلهم يغمضون أعينهم عن حقيقة العجز والفشل اللذين تدار بهما البلاد سياسيا واقتصاديا، ويزين لهم تجاهل مطالب المعارضة، بحجة أنها لا تعطيهم الفرصة للعمل، وتنفذ مخططا للتخريب، لأنها وفقا لاعتقادهم ترفض تطبيق شرع الله.
لم تُولَد تركيا «الأردوغانية» عظيمة، بل اتكأت على ميراث من التنمية والحضارة الحديثة.. خرجت من «علمانية أتاتورك» بفهم أرحب إلى جوهر الدين، لا يتوقف عند حرفيات الشريعة، كما تعامل معه البرلمانيون الإسلاميون فى مصر بعد الثورة، بل استلهمت منه دوافع العمل، والإنتاج، والانتصار للمبدأ، واحترام خصوصية الفرد، والتحلى بأخلاق الشريعة، قبل التقيد بأحكامها.
هذه هى الأسس الفكرية التى صنعت التوازن بين الدين والدولة فى تركيا، فلا يطغى الدين بثوابته، على الدولة بمتغيراتها. ولا تهيمن الدولة بحداثتها، على الدين بأصوليته.. فكيف نصل إلى ما وصل إليه الأتراك دون أن نتشبع بهذه القناعة؟ لن يكون أىّ مما سيكتبه مرسى فى ورقة أوغلو البيضاء واقعيا، لأنه يختزل المشروع التركى فى صندوق انتخاب أتى بحزب العدالة والتنمية، متغاضيا عن مقومات الدور الإقليمى الذى نشأ وتطور عبر ثمانية عقود، كان الإخوان فى مصر وقتها يعانون من التضييق، ويعملون فى الظلام تحت الأرض، دون أن يحتكوا من قرب بتجربة إدارة الدولة.
«علمانية تركيا» جعلتها «عملية»، تساند المشروع الرابح دون أن تخشى منه على مبادئها.. تحالفت مع إسرائيل عسكريا، ولولا الهجوم الإسرائيلى على أسطول الحرية وهو فى طريقه إلى غزة، ومقتل بعض ركابه الأتراك، لربما اتسع نطاق هذا التحالف إلى قطاعات تتجاوز تصدير السلاح والتقنية العسكرية، وما زالت تركيا رغم ذلك تتمتع باحترام العرب وإسرائيل على السواء.
إذا خذل مرسى تركيا بعدم جاهزيته، فإن الشعب المصرى يميز معالم طريقه جيدا منذ اليوم الأول فى الثورة، وينتظر من تركيا أن تقدم له هو الآخر ورقة بيضاء، تعده فيها بتلبية مطالبه أيا كانت، مثلما عرضت على الرئيس المصرى.. ساعتها لن يكون المطلب الأول للمصريين من الأتراك، مزيدا من المشروعات الاستثمارية، والدعم الاقتصادى، وتسهيل إجراءات السفر، بل إلحاق إخوان مصر بمجموعات للتقوية السياسية فى المدرسة التركية، كى يتعلموا منها الوضوح فى الرؤية، والشفافية مع الشعب، والصدق مع المعارضة.
ما نحتاج إليه من تركيا هو خبرتها السياسية لتصحيح مسار ومسيرة نظامنا الحاكم.