نشرت صحيفة «الأهرام» أول من أمس حوارا أجراه الزميل جمال الكشكى مع اللواء أحمد حلمى عزب مدير مصلحة الأمن العام بوزارة الداخلية، وفى موضع من هذا الحوار أشار الرجل إلى ما اعتبره «مفاجأة» وهى أن «70 فى المئة» من الجرائم الجنائية يرتكبها حاليا «أشخاص ليسوا مسجلين»، أى غير محترفين وليس عندهم سجل سوابق إجرامية.
وعزا مدير الأمن العام هذا الارتفاع الهائل والطفرى فى معدلات تدفق مواطنين غلابة عاديين على سوق الجريمة إلى زيادة «البطالة والأزمات الاقتصادية المتراكمة»، وألمح إلى أن عدم الاحتراف وضعف الخبرة الجنائية لدى هؤلاء المجرمين المحدثين المضطرين، أدَّيَا إلى ما سماه «نمطا إجراميا» جديدا لم يشأ اللواء عزب وصفه بأنه ينطوى على قدر كبير من التهور والغشم مما يجعله يبدو أحيانا أشد ضررا وأفدح أثرا من «أنماط» الجرائم التى يرتكبها محترفو الإجرام القدماء.
وليس عندى على هذا الذى قاله مدير الأمن العام أى ملاحظة سوى اعتراضى فقط على استخدامه تعبير «مفاجأة»، إذ لا مفاجأة إطلاقا فى الموضوع، فكل من لديه عينان فى وجهه (ولو كان فاقدا للبصيرة) بإمكانه رؤية نتائج البؤس المتفشِّى فى المجتمع من أيام حكم عصابة المخلوع أفندى وولده، وكيف زاد عليه الآن فاقة وعوز وجوع متنامٍ بسبب أن «جماعة الشر» اليمينية المتطرفة التى ورثتنا بعد الثورة توَّجت فاشيتها ورغبتها المحمومة فى اختطاف دولة المصريين ومجتمعهم، بفشل تاريخى ذريع فى إدارة شؤون البلاد ورعاية مصالح العباد، وأثبتت أنها لا تملك من حطام الدنيا وخبرة السياسة شيئا إلا الاندفاع الأحمق فى تنفيذ خطة «التمكين» ومحاولة إعادة إنتاج توجهات وسياسات مبارك وولده الكارثية نفسها فى كل المجالات وعلى جميع الأصعدة، ولكن بتطرف أكبر وكفاءة أقل، وخيابة لا يمكن وصفها بنعوت وكلمات مهذبة.
لقد كتب العبد لله ذات يوم متحسرا على تراجع «دور» الحرامى الغلبان المحترف الذى كان يمارس عمله «بأمانة» وكفاءة ومهنية تجنِّبه الزلل والتورُّط فى جرائم بشعة أخرى (كالقتل والاعتداء الوحشى على المسروقين) دون أى داعٍ ولا أى لزمة، ولن أكرر ما سبق وقلته آنذاك عن أسباب هذا التراجع خصوصا «الأثر المزدوج» الناجم عن استمرار ارتكاب سياسات اقتصادية واجتماعية مجرمة أدت إلى تخليق قطيع من اللصوص والحرامية الكبار جرى إزاحة الثروة الوطنية وتركيزها الشديد فى كروشهم، مما دفع كتلا بشرية هائلة فى المجتمع إلى الغوص باضطراد فى مستنقع البؤس بغير أمل فى النجاة، ومن هذا المستنقع تسرّبت إلى «سوق البلطجة والسرقات الصغيرة» أعداد كبيرة من الأبرياء غير المدرَّبين ولا المؤهَّلين لممارسة هذه الجرائم حسب أصولها «الفنية» وقواعدها المرعية التى يعرفها «المجرم المهنى» الأصلى.
غير أن هناك أثرا آخر لهذه السياسات الإجرامية لعله المسؤول عن تفاقم الحالة وزيادة ثقلها وبشاعتها، وأقصد تواكب النهب والإفقار وعملية تخليق قطعان اللصوص الكبار، مع بث وإشاعة ثقافة جلفة وجاهلة تحتفى بمظاهر التدين الشكلى المنافق على حساب القيم الراقية الأصيلة للدين، فضلا عن تسويغ العنف بكل تجلياته بل تبريره وتمجيده، فكانت النتيجة تسييد نمط فكرى وسلوكى فقير جدا وضعيف الصلة بالأخلاق وينضح بآيات مرعبة من القسوة والتوحش والهمجية.. هل أذكِّركم بأن هذه الثقافة الكريهة هى الآن التى تحكم، وفرسانها العميان يتسلطنون علينا وعلى أهالينا بالعافية وبالتدليس؟!
لاحول ولا قوة إلا بالله..