عندما تعيش فى دولة كل ما يحدث فيها يكتنفه الغموض بتعمد واضح وضوح الشمس، فلا توجد تحقيقات، وتختفى الحقائق، وتتضارب التصريحات، ويكون الموت بأبشع الصور الإجرامية من تعذيب وقتل واغتيال عمدًا يجتاح الشوارع المصرية بمنتهى الجبروت، هنا ستقف مذهولًا مستنكرًا هل هذا يحدث فى مصر بعد الثورة، بعد ثورة قامت لتنادى بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية؟! للأسف نعم هذا هو حال مصر الآن بعد الثورة الجليلة، التى يحاول كل من حكم مصر بعد ١١ فبراير أن يقضى عليها، ويدمر سمعتها، ويضيع دماء شهدائها هباءً.
والكل يتخلى عن مسؤوليته تجاه البلد، بداية من رئيسه، الذى دوما ما ينفى رجاله مسؤوليته عما آلت إليه البلاد من تدهور وفشل فى كل النواحى المختلفة، وهو المسؤول الأول عن البلد ورئيسه المنتخب، فلا نتعجب إذن أن يتنكر الجميع من مسؤوليته عن هذا البلد قدوة برئيسهم المنتخب. لا يعترف الرئيس وجماعته بفشل الحكومة، التى اختارها وشكّلها هو ورئيس وزرائه. يتبرأ الرئيس مما تقوم به «الداخلية» من أفعال مشينة واستمرارها فى اتباع نهج القاتل «العادلى» من تعذيب حتى الموت، وتبتكر طرقًا جديدة فى إهانة الموطن المصرى أسوة بما شهدناه تحت الحكم العسكرى من تعرية وسحل السيدات والرجال. كل هذا من تبرؤ وإنكار مسؤولية نسمعه ليلًا ونهارًا من رجال الرئيس والرئيس نفسه، رغم أن الدستور الذى كتبته جماعته وأصدقاؤهم وأتباعهم بأيديهم لا بأيدى غيرهم يتضمن المادة 199 التى تنص على أن رئيس الجمهورية هو الرئيس الأعلى لهيئة الشرطة!!
محمد حسين، أدمن صفحة «معا ضد الإخوان»، الشهير بـ«كريستى»، كان أحد الشباب الذين هنأوا الرئيس مرسى بفوزه، وفرحوا كما فرحنا بسقوط «شفيق»، وقال كما قلنا: «الثورة مستمرة، ولو لم يحقق مرسى مطالب الثورة سوف نكون أول المعارضين له». كريستى لم يكن بلطجيًا كما تدعى بعض صفحات «فيس بوك» المحسوبة على الإخوان ومن يواليهم، فلا يوجد بلطجى يكتب «هايقولوا مات كريستى.. قوللهم لأ عاش..ما الجنة ولا فيها موت.. ولا تتدخل ببلاش». كانت وصيته لأصدقائه جنازة مثل جنازة زميله فى النضال جيكا، فقد اغتالوا جيكا وكريستى وعمرو سعد بالطريقة نفسها، بالرصاص الحى والخرطوش يتخلل أجسادهم الطاهرة. فهل من الصدفة أن يُغتال الثلاثة المسؤولون عن صفحة «معًا ضد الإخوان» ونشطاء حملة «إخوان كاذبون» بالطريقة نفسها، أحدهم فى نوفمبر الماضى، وكريستى وعمرو الأسبوع الماضى؟!
فقد كان أحد أهم وأجل أسباب ثورة يناير ٢٠١١ هو حادث مقتل الشاب الشهيد خالد سعيد على يد بلطجية جهاز شرطة العادلى، وها هنا يولد ويموت فى نفس الوقت بطل وشهيد جديد (محمد الجندى)، بسبب التعذيب على يد الداخلية، وقد رصدت منظمات حقوق الإنسان ما يقرب من 17 حالة وفاة جراء التعذيب منذ تولى مرسى الرئاسة. فى كل محافظات مصر تمارس الداخلية التعذيب حتى الموت ما بين أقسام الشرطة وسجن برج العرب ومعتقلات الأمن المركزى.
فبالطبع ليس غريبًا على الداخلية قيامها بهذه الجرائم، فلم يتم تطهير الداخلية حتى الآن، وحتى حل جهاز مباحث أمن الدولة لم يكن حقيقيًا، كان ظاهريًا فقط بتعديل الاسم ليصبح الأمن الوطنى. أجدر بهم أن يلغوا اسم الأمن من قواميس الداخلية المصرية.
عمرو سعد والجندى وكريستى وجيكا والحسينى أبوضيف، والذين استشهدوا قبلهم فى ماسبيرو ومحمد محمود وفى موقعة الجمل وبورسعيد والسويس وفى كل أحداث الثورة لم تتم محاسبة قاتليهم، حتى حالات التعذيب التى أُدين فيها الضباط كل ما حدث هو إيقاف الضابط عن العمل، وربما يعود مرة أخرى ليمارس مرضه النفسى على ضحاياه من المواطنين الغلابة.
جرائم بشعة تُرتكب من نظام مرسى وحكومته، اغتيالات عمدًا لصغار الشباب، استمرار لسيناريو التعذيب حتى الموت، وفى المقابل يُتهم الشباب الذى يحاول فقط أن يصدّ عن نفسه عنف الداخلية بأنه يستخدم العنف وأنه بلطجى. شباب يعيش فى بلد بلا قانون.. بلا عدالة.. بلا قصاص، ويُطلب منه ضبط النفس!! ألا تعرفون يا سادة يا حكام أن غياب العدالة هو الطريق إلى الغابة، وأن يأخذ كل فرد حقه بيده؟ ألا تفرقون بين القتل مع سبق الإصرار والترصد والعنف العفوى الذى فقط يحدث دفاعًا عن النفس؟ طبقوا العدل والقانون على المجرم القاتل، ثم ابحثوا عمن يصدون عن أنفسهم الأذى بأيدى رجالكم