إذا كان الصبّ تفضحه عيونه، فإن المجتمع تفضحه واجهات مبانيه!
وفى مصر، تبدو واجهات المبانى أشبه بإعلانات عن المهنة والوجاهة.. والعائلة.
وسرعان ما تكتشف من قراءة تلك اللافتات الخشبية أو المضيئة أنك أمام عائلات بأكملها تمارس أو تتوارث مهنة ما، سواء فى الطب أو التجارة أو القضاء.
لا بأس فى ذلك، مادام عملاً حرًا شريفـًا يتقاضى عنه المرء رزقـًا حلالاً، لكن الأمر أعمق من ذلك بكثير.
مجتمع «النصف فى المائة»!
هكذا صاح الرئيس جمال عبدالناصر، فى سياق وصفه لمجتمع ما قبل ثورة 1952، وكان يقصد بذلك تلك المجموعة الضئيلة التى تضع يدها على ثروات مصر وتملك النفوذ السياسى فيها. بل إن «ناصر» قال فى حديث صحفى عام 1965 إن 16 عائلة فقط فى مصر كانت تملك السلطة السياسية قبل الثورة، ومن هذه العائلات خرج معظم رؤساء الوزارات والوزراء والكبراء فى العهد الملكى.
وقد يكون هذا صحيحـًا إلى حد كبير، خاصة أن مصر شهدت فى النصف الأول من القرن العشرين توطيد علاقات النسب والمصاهرة بين عدد كبير من عناصر الرأسمالية المصرية، إذ نجد على سبيل المثال علاقات مصاهرة ونسب بين العائلات التالية: خشبة- محمود سليمان- محمد محفوظ - الهلالى، والهلالى- عمرو، وشعراوى- سلطان، ويكن- إسماعيل عاصم- أبوحسين- داوود راتب، وأبوحسين- عبدالغفار، وأحمد عفيفى- المانسترلى- بركات، والبدراوى عاشور- سراج الدين شاهين، والمكباتى- على ماهر- أحمد ماهر، وعبدالفتاح يحيى- إسماعيل صدقى، وإسماعيل صدقى- أباظة، والعلايلى- اللوزى، والشواربى- علما، وعبيد- حنا، وويصا- دوس- حبيب شنودة- خياط - أبسخرون- أخنوخ فانوس، والغازى- الطويل.
بل يذهب المُراقبون، ومنهم عالم السياسة ليونارد بايندر فى كتابه «الشريحة الوسيطة»، إلى أنه منذ أول انتخابات نيابية عقب ثورة 1919، فإن هناك حوالى 500 عائلة، من أعيان الريف ووجهاء المُدن، تطفو على السطح السياسى فى كل العهود، إن لم تكن بشيوخها، فمن خلال الأبناء، والأحفاد، وأولاد العموم. وكانت هذه الشريحة الوسيطة، هى عماد حزب الوفد فى العهد الملكى، ثم الاتحاد القومى والاتحاد الاشتراكى فى العهد الناصرى، ثم الحزب الوطنى الديمقراطى فى عهدى السادات ومبارك.
أبقت المصاهرة الباب مواربـًا للراغبين فى التمتع بالمال والنفوذ معـًا.
خذ عندك مثلاً المهندس سيد مرعى.
فقد أصبح سيد مرعى من أشهر السياسيين والدبلوماسيين، كثمرةٍ لارتباط المصاهرة والزواج من أربع عائلات من جملة ثلاثة عشر هم أعضاء مجلس قيادة الثورة، واستفاد سيد مرعى من علاقات المصاهرة العائلية بين عائلته وعائلات خالد وزكريا محيى الدين، كما حرصت العائلة على المصاهرة من عائلة على صبرى وعائلة وجيه أباظة، أحد الضباط الأحرار، وكذلك بعائلة كمال الدين حسين، وفى مطلع الستينيات تزوج محمد نصير وهو من عائلة مرعى من ابنة عبداللطيف البغدادى.. وتوَّج سيد مرعى هذه الشبكة من العلاقات العائلية عن طريق المصاهرة بزواج ابنه البكر حسن من نهى، ابنة الرئيس السادات من جيهان.
هذا الملمح العائلى للنفوذ - فضلاً عن الثروات والاستثمارات المختلفة- ظل سائدًا منذ منتصف القرن العشرين حتى الآن، خاصة أن بعض رجال الأعمال أخذوا يدعمون أنشطتهم من خلال علاقات ومصالح مع كبار رجال النظام أو من خلال موقعهم الاستراتيجى داخل مختلف الهيئات، من مجالس إدارة وهيئات حزبية، ولاحقـًا جمعيات رجال الأعمال.
وفى ظل تشابك المصالح وشبكة المصاهرة والقرابة، بدت الصورة فى عهد مبارك أكثر تعقيدًا من مجرد الحديث عن رجال أعمال فى مواقع السلطة.
نتوقف هنا قليلاً لنشير إلى زواج ابنة رشيد محمد رشيد فى عام 2006 من أمين، نجل رجل الأعمال عاكف المغربى، وهو بالمناسبة شقيق المهندس أحمد المغربى. دعونا ننوه بأن المغربى هو ابن خالة وزير ثالث هو محمد لطفى منصور، وأن الأمر لا يقتصر على صلة القرابة، وإنما تجاوزه ليصل إلى الشراكة فى الكيان الضخم «المنصور والمغربى»، الذى يجمع سلسلة شركات فى مجالات كثيرة.
هذه الخيوط الرمادية بين وزراء ورجال أعمال وأصحاب نفوذ، تلقى بظلالها الآن على جماعة الإخوان المسلمين.. ولهؤلاء حكاية تستحق أن تُروى.