كتب المقال التالى منذ ما يقرب من العام ونصف العام كمشاركة من الكاتب فى إحدى فاعليات إحياء الذكرى التاسعة والعشرين لمذبحة صبرا وشاتيلا، ولم يكن قد أعد فى الأصل بغرض النشر، ولعل ذلك يفسر سيادة اللهجة الحماسية على اللغة التحليلية فى بعض المواضع، خصوصا أن الكاتب كان حريصا على التنبيه أن المنحى الذى كانت قد اتخذته الأحداث كان ينبئ بأن الانتفاضات الشعبية التى شهدها عدد من الدول العربية ستتحول إلى ربيع للمحافظين الجدد لا إلى عيد للشعوب، ولكن الآن وبعد أن أصبح فشل النخب السياسية وانتشار العنف العبثى -ولو بدرجات متفاوتة- القاسمين المشتركين بين تلك البلدان فقد رأى الكاتب نشره -مع إضافة بعض العبارات للتعريف بشخصيات ورد ذكرها قد تكون غير معروفة عند بعض القراء فى مصر وحذف أخرى لدواعى المساحة- لعله يلقى صدى عند البعض بما قد يسهم فى الحفاظ على ما تبقى من أوطان كانت لنا ولن تكون للأجيال القادمة إذا ما استمررنا فى التسابق باتجاه الهاوية. وأخيرا ومنعا للخلط بين مواقف الكنيستين لزم التنويه إلى أن المواقف الوطنية للكنيسة المصرية تختلف جذريا عن المواقف الطائفية التى اتخذتها الكنيسة المارونية اللبنانية فى الماضى.
الويل لأمة كثرت طوائفها وقل فيها الدين
جبران وفيروز
تحل هذه الأيام الذكرى التاسعة والعشرون لأحد أكثر الأحداث مأساوية فى تاريخ العرب المعاصر: ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا، ففى السادس عشر من سبتمبر 1982 تسللت ميليشيات مارونية بمساندة ودعم جيش العدو الصهيونى إلى المخيمين الأعزلين لتفرغ طوال ثلاثة أيام الحقد الطائفى الذى زرعه داخلها مثلث الإقطاع - الكنيسة - الرأسمالية الطفيلية المارونى بقتل واغتصاب والتمثيل بجثامين الآلاف من فقراء فلسطين ولبنان وفقراء عرب آخرين، وحَّدهم فى المخيمين حلم التحرر من الاستعمار والاستغلال الطبقى، والشهادة. لم تكن تلك أول مذبحة يتعرض لها الفلسطينيون ولم تصبح الأخيرة بعد، لم تكن المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التى يتحرر فيها الدم العربى فى الشهادة من حدود وأنظمة سايكس - بيكو، ومع ذلك تظل لصبرا وشاتيلا دلالة خاصة لا تنبع فقط من كونها قد ارتكبت فى أول عاصمة عربية يدخلها جيش العدو، بعد أن تكفل حلفاؤه الأطلسيون والعرب بإخراج المقاومة بالخديعة من بيروت التى استعصت على جنرالاته ما يقرب من ثلاثة أشهر، حمتها فيها الجماهير الفلسطينية واللبنانية ومواطنوها العرب الذين احتضنتهم بعد أن نفتهم عواصمهم، بينما اكتفت جيوش الأنظمة -باستثناء بعض وحدات الجيش السورى- بمتابعة ملحمة صمود الشعب المسلح على شاشات التلفاز وتكديس النياشين والأوسمة الوهمية على الصدور وشراء السلاح الأطلسى من قوت الشعوب حتى ترتفع أسهم شركات السلاح فى البورصات وعمولات الحكام. كانت صبرا وشاتيلا أول مذبحة يضبط فيها تحالف الصهيونية والإمبريالية والرجعية العربية متلبسا بالدم العربى، حتى إن لجنة التحقيق التى شكلها العدو لم تملك الوقاحة الكافية لتبرئ ساحة وزير حربه تماما. قبل صبرا وشاتيلا كانت الجريمة تنسب لضلع واحد فقط من أضلاع هذا التحالف، فتحمل العدو الصهيونى أوزار دير ياسين وكفر قاسم، بينما جلل عار وخزى أيلول الأسود وتل الزعتر الرجعية العربية، أما فى صبرا وشاتيلا فقد كانت بصمات هذا التحالف حاضرة فى كل الأزقة والبيوت وعلى جثامين كل الشهداء، فالإمبريالية والرجعية العربية أقنعتا القيادة الرسمية للمقاومة الفلسطينية بإخلاء بيروت من المقاتلين مقابل تعهدات بحماية المدنيين، ولكن سرعان ما انسحبت القوات الأمريكية والفرنسية والإيطالية لتفتح الطريق أمام العدو الصهيونى والميليشيات المتحالفة معه لاقتحام بيروت وذبح المخيمات، ولكن ليست هذه دلالتها الأهم. الأهم أن صبرا وشاتيلا كانت الإعلان الدموى عن نهاية عصر الأمة وهزيمة حلم الحرية والاشتراكية والوحدة وفاتحة عصر الطوائف بإماراتها وشيوخها ومنظريها المنتشين بالدماء والعطشى دائما إلى المزيد منها. كان الحلم قد تلقى ضربات قاسية واحدة تلو الأخرى بدءا بهزيمة 1967 وغياب عبد الناصر واستشهاد كمال جنبلاط (أبرز قيادات القوى الوطنية اللبنانية الرافضة للطائفية والمتحالفة مع المقاومة الفلسطينية) وتوقيع اتفاقية الاستسلام، لكنه كان ما زال ينبض بالحياة فى بيروت يحافظ على جذوته الحكيم (جورج حبش أبرز قيادات النضال الفلسطينى ومؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) وحاوى (جورج حاوى أبرز القيادات التاريخية لليسار اللبنانى وأحد مؤسسى جبهة المقاومة اللبنانية بعد اقتحام بيروت) وتحرسه أشعار وبنادق الثوار، لكن بعد الخروج من بيروت أصبح كما المخيمات مستباحا.
كانت المخيمات الهدف الأول لتحالف الشر لإدراكه بأنها الحاضنة الأهم للحلم، وبعد بيروت أيقن هذا التحالف أن استخدام مجموعة من الفقراء لقتل مجموعة أخرى أكثر جدوى اقتصاديا وسياسيا من تورطه المباشر فعمل على تعميم النموذج. كانت أفغانستان المختبر الذى حول فيه الكهنوت -«السنى» هذه المرة- وشركاؤه من «أهل الكتاب» فى المخابرات المركزية الأمريكية الآلاف ممن دفعهم تحيز الدين الفطرى للحرية إلى القتال من أجل ما اعتبروه قضية عادلة إلى آلات قتل لا ترى إلى الجنة سبيلا إلا على أجساد وأشلاء الأبرياء من العجائز والأطفال والرجال والنساء، ومن أفغانستان خرجت جحافل «المجاهدين» تنشر الموت والخراب فى ربوع الوطن العربى، وكان لا بد من حرق بغداد والبصرة -بالتعاون طبعا مع الأمريكى وأيضا مع الإيرانى رغم الاختلاف المذهبى- وسبى ليلى وتهجير مسيحيى العراق -دون خشية خصومة يوم الحساب- وعقر فرس المثنى وملء دجلة والفرات بدماء ضحايا من نسبوا أنفسهم زورا إلى سنة محمد وشيعة على -والرسول الكريم وابن عمه المغدور من هذا البهتان براء- حتى يتسنى لشيوخ المسلخ اختلاق ماض يتناسب مع زيفهم ولا يليق بسلفنا ولا بالعراق. أما بيروت التى هرب منها جيش العدو على وقع ضربات المقاومة اليسارية والعروبية ورجال حزب الله فقد تم اجتياحها مرة أخرى، ولكن هذه المرة بالنفط وفتاوى أحفاد ابن ملجم حتى أصبحت تستقبل بالزهور جعجع، والجميل، وبندر، وفيلتمان وغيرهم من قتلة الأمس واليوم والغد، وتحولت إلى خنجر فى ظهر المقاومة وسيدها الذى فرض معادلة بيروت-تل أبيب على العدو الصهيونى.
ومع تزعزع سيطرة تحالف الرجعية العربية والصهيونية والإمبريالية على الشعوب العربية إثر سقوط زين العابدين ومبارك لم يجد هذا التحالف استراتيجية أكثر فاعلية من تأجيج النزعات الطائفية والمذهبية لشن هجومه المضاد. كانت البحرين وسوريا الساحتين الأبرز اللتين فُعلت فيهما هذه الاستراتيجية، ففى البحرين قمعت مدرعات الشقيق المذهبى الشعب المنتفض فى ظل التعتيم الإعلامى الذى فرضته الفضائيات الملتزمة مذهبيا وطبقيا لا مهنيا، ومباركة الفقهاء الذين أهدروا دم النظام «العلوى» فى دمشق والشعب «الشيعى» فى المنامة إعمالا للوسطية، وغياب علم البحرين من ميادين التحرير وحضور أعلام النفط والمذهبية. وفى سوريا دخل هذا التحالف على خط تحرك شعبى ديمقراطى -لو تحققت مطالبه المشروعة لزادت من مناعة الأمة- فى محاولة لجر البلاد إلى مستنقع الطائفية عبر الدفع بمجموعات مسلحة متلهفة لتعويض «خسائر السنة» فى العراق ولبنان (راجع تقارير هالة جابر فى الصنداى تايمز اللندنية) بإسقاط النظام العربى الوحيد الذى عارض الغزو الأمريكى للعراق وساند مقاومة لبنان وفلسطين، وبتمزيق المجتمع الذى احتضن ضحايا التطهير المذهبى بالعراق بينما فتح عرابو تلك الجماعات سماوات وأراضى، ومياه البلاد التى نكبت بحكمهم للغزاة، كذلك عبر الإصرار دون تقديم دليل على إشراك حزب الله فى مسؤولية الدم الذى أراقه النظام بعد أن وفرت له تلك الجماعات ذريعة لاستخدام السلاح ضد المتظاهرين، وأيضا بالعمل بلا كلل على تشويه صورة السيد حسن نصر الله عبر تحريف دعوته الرامية إلى تجنيب سوريا حريق طائفى سيمتد لهيبه لا محالة إلى العراق ولبنان سعيا من تحالف الشر لمحاصرة شعبية المقاومة تمهيدا لكربلاء جديدة تعوض العدو الصهيونى عن هزائمه المتكررة أمام حزب الله. وفى مصر كانت أطفيح وإمبابة بعد أن قفز إلى صدارة المشهد من يعطون الأولوية لقشور الدين ممن كانوا قد حرموا الخروج على مبارك حتى اللحظة الأخيرة على الرغم من سياساته التى أدت إلى فتك الفقر والمرض بغالبية الشعب ونهب ثروات الوطن. كانت الخطوة الأولى لتلك القوى وضع الله فى مقابل الشعب لتحرم الأخير من مجد إسقاط مبارك ولتضع أسس سلطة من يدعون التحدث باسم الله دون توكيل منه وبعد انقطاع رسله، وبعد الاجتراء على الله جاءت الخطوة الثانية بتزيف إرادة الشعب عبر تصوير نتائج الاستفتاء الشعبى على أنها انتصار لطرحهم، وتلا الانتصار فى «غزوة الصناديق» دعوة المخالفين فى الرأى باسم الديمقراطية إلى الرحيل! وفى مقابل هذه المجموعات المدعومة من الرجعية العربية وقفت جماعات مدعومة من ضلع آخر من أضلاع التحالف الثلاثى بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية تعلى من شأن مبادئ -على الرغم من أهميتها- لا تقدم وحدها حلولا للخراب الذى حل بالوطن نتيجة السياسات التى دعمها ممولو تلك الجماعات، وفى خضم المعارك المفتعلة بين المجموعتين للتغطية على عدم قدرتهما على تقديم حلول لمشكلات غالبية المواطنين من الفقراء ومحدودى الدخل ضاعت مصالح تلك الأغلبية وأُنقذت مصالح الأقلية التى كادت أن تنهار مع سقوط مبارك، والأخطر أن المجتمع المصرى أخذ ينزلق تدريجيا فى اتجاه هاوية الاقتتال الطائفى الذى يفتك فيه فقراء السيدة عائشة ومنشية ناصر وإمبابة وأطفيح وغيرها من قرى وأحياء مصر ببعضهم البعض بينما تستمر الطبقة المترفة بمسلميها ومسيحييها فى الاستئثار بثروات الوطن.
إن تجنب ويلات الطائفية فى مصر وفى غيرها من البلاد العربية يتوقف على وحدة الفقراء والكادحين، فالأغنياء غالبا ما يتحالفون ولا يتقاتلون، وإذا ما دفعتهم بعض التناقضات الثانوية إلى التصارع فإنهم يقومون بذلك من خلال الفقراء الذين تتم تعبئتهم باستخدام الدين والمذهب وعلى حساب دمائهم التى تتحول إلى أرباح للأغنياء، فعلى الفقراء أن يبنوا التنظيمات التى تمثلهم وأن يقيموا التحالفات التى تضمن لهم نصيبهم العادل فى السلطة والثروة، فالفقر ذل للإنسان الذى كرمه الله لذلك تمنى الإمام على لو كان الفقر رجلا ليقتله، بينما الندرة والنقص ابتلاء من الله لذا عطل الفاروق حد السرقة فى عام الرمادة، كذلك فالإفقار الحاصل فى بلادنا ظلم نزه الله نفسه عنه بينما يصر فقهاء النفط على وصمه به لتبرئة ساحة سلاطينهم والبنك وصندوق النقد الدوليين. إن تقصير الجلباب وإطلاق اللحية وفرض النقاب لن يضع حدا للفقر ولا لسياسات الإفقار وإلا لكانت إمارة الملا عمر «محطم الأصنام» أغنى دول العالم لا من ضمن أفقرها، كذلك فإن الديمقراطية الليبرالية وحرية الإعلام لم تحميا مواطنى الدول الغربية من بطش وجشع الرأسمالية المتوحشة كما أوضحت الأزمة المالية الأخيرة، فالحرية فى ظل احتكار طبقة واحدة للثروة والسلطة السياسية رفاهية لا تتمتع بها إلا تلك الطبقة المسيطرة. ولكن لن يتسن تحقيق وحدة الفقراء إلا بإنقاذ الإسلام من برميل النفط الذى أغرقه فيه البعض وإلا بمنع روما الجديدة من تنصيب نفسها حامية لمسيحيى الوطن العربى كما يرغب بعض مسيحيى المهجر.
إن وحدة الفقراء هى ضمانة عدم تكرار صبرا وشاتيلا فى أى بلد عربى وشرط تحقيق حلم التحرر من الاستعمار والاستغلال الطبقى الذى ذبح الآلاف فى المخيمين لخنقه.
فيا فقراء العرب اتحدوا.