ودعنا أمس آخر ملوك الموال فى عالمنا العربى الفنان الكبير محمد العزبى. كان الموال هو ترمومتر الغناء فى القرن العشرين، وأغلب الكبار كانوا يحرصون على اجتياز هذا الامتحان حتى من اشتهروا بالغناء العاطفى مثل عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم لديهم مواويلهم.
آخر عمل فنى من الممكن أن تتذكره للفنان محمد العزبى هو دويتو «جرح الحبيب» مع المطربة اللبنانية ديانا حداد.
تغير المذاق الفنى والمزاج العام، وبدأت الأضواء تنحسر، وعشاق الفن الشعبى الأصيل يتناقصون، حتى جاءه طوق النجاة قبل عشر سنوات بـ«جرح الحبيب» التى كتبها مصطفى مرسى ولحنها وليد سعد بهذا المذاق الشعبى. فتذكره الناس ولكن بعد ذلك لم تتكرر التجربة مع أى مطرب آخر وأتصورها سببت له جرحا.
العزبى هو واحد من الدُرر القليلة فى الغناء الشعبى الأصيل، العمل الفنى يكمن فى التفاصيل وأداء الموال بتلك التفاصيل الدقيقة هى التى تكشف قدرات المطرب.
بدأ العزبى المشوار فى نهاية الخمسينيات بعد ربع قرن من تتويج محمد عبد المطلب رائدا للغناء الشعبى والموال، وهكذا بدأ مقلدا له حتى إن الإذاعة المصرية أرادت اختبار المستمعين وأذاعت أغنية «ودع هواك» بصوتى عبد المطلب ومحمد العزبى، وسألت عن الأصل والصورة فكانت النتيجة هى أن الجمهور انقسم وتساوت الكفتان، ولم تمض سوى سنوات ويخرج العزبى من معطف الأستاذ الكبير محتفظا بمذاقه الفنى الخاص، إلا أنه ظل حريصا على أن يواصل التعلم فى مدرسة الأستاذ، التى كان من معالمها أن يبدأ الغناء بالموال. امتلك العزبى ذاكرة تحتفظ بالعشرات من المواويل، وكم تمنيت أن يتنبه أحد إلى أهمية أن يتم توثيق هذا التراث، ولكن لا أحد كالعادة أعار هذا الأمر اهتماما.
الحياة منحته صدفتين، الأولى هى أن فرقة «رضا للفنون الشعبية» كانت تبحث عن مطرب وذلك فى بداية تكوينها مطلع الستينيات، حيث كان المطرب كارم محمود هو مطرب الفرقة الأول، ولكنه كان يجد صعوبة فى الأداء الاستعراضى، فكان لا بد من البحث عن مطرب رشيق يستطيع الأداء الحركى بليونة، فكان العزبى هو هذا المطرب الذى توفرت فيه كل الشروط، واحتفظت له الذاكرة البصرية باستعراضات مثل «فدادين خمسة»، وأفلام مثل «أجازة نص السنة»، و«غرام فى الكرنك»، ورددنا معه «لُقْصر بلدنا بلد سواح فيها الأجانب تتفسح/ وكل عام وقت المرواح بتبقى مش عايزة تروح».. طبعا تبدلت الأيام ولم يعد أحد الآن يذهب إلى الأقصر.
الصدفة الثانية جاءته عندما اعتذر محمد رشدى فى اللحظات الأخيرة عن غناء «بهية وعيون بهية»، كان رشدى قد غنى عديدا من الأغنيات الشعبية التى تتغزل فى النساء بداية من «وهيبة» و«عدوية» وصولا إلى «نجاة» و«نواعم» وغيرها، ولاحظ أن النجاح لم يصادف «نجاة» و«نواعم»، وخشى أن تلقى «بهية» نفس المصير فتراجع عنها، وعلى الفور قرر بليغ حمدى ملحن الأغنية أن يرشح لها صوتا شعبيا آخر وهو محمد العزبى، الغريب أن عبد الحليم حافظ عندما استمع إلى اللحن تمنى أن يقدمه بصوته، وله تسجيل بصوته يسأله الإذاعى وجدى الحكيم عن الأغنية التى كان يتمنى غناءها فقال له «بهية» بلا جدال.
انتشرت الأغنية فى نجاح غير مسبوق، وصارت مرادفة لاسم العزبى، ما إن يراه الناس حتى يطالبوه بغناء «بهية».. النجاح الطاغى صار عقدة، لأن الناس لم تعد تريد أن تستمع إلى أى لحن آخر، فقرر أن يلجأ إلى التراث الموسيقى، واختار واحدة من أجمل الأدوار وهو «قمر له ليالى» لداوود حسنى، هذا الملحن المصرى اليهودى ورددها له الناس ولكن ظل لديهم شغف بـ«بهية»، ولجأ إلى هذه الحيلة وهى أن يرد على «بهية» بالوجه الآخر للملحمة «ياسين»، وبدأت الكلمات التى كتبها عزت الجندى ولحنها إبراهيم رأفت «قالوا كتير عن بهية/ احكى لنا عن ياسين»، ولعبت دورا عكسيا، حيث إنها كانت تذكرهم بالجزء الأول «بهية وعيون بهية»، وكلما شارك فى حفل وغنى «ياسين» اكتشف أنهم ينتظرون أن ينتهى من «ياسين» على وجه السرعة من أجل «بهية».
ورغم ذلك فأنا على المستوى الشخصى أحن أكثر لمواويل العزبى وإليكم هذه: «طبيب يقول للعليل عيان وداوينى/ قال العليل للطبيب وأنا مين يداوينى/ أنا جايلك يا صاحب الدوا علشان تداوينى/ أتاريك فى جرح الهوى بتقولى داوينى/ قوم يالله بينا سوى/ نزرع تقاوى دوا يشفيك ويشفينى»! كأنه يصف حالتنا بين الطبيب والعليل.. جبهة الإنقاذ والنظام الإخوانى!