هو محافظ البنك المركزى، الذى برح موقعه منذ أيام، ورغم أن اسمه فيه «العقدة» إلا أنه «حل» كثيرًا من مشكلات النظام المصرفى المصرى على امتداد سنوات عمله، ويكفى أنه واجه تحديين كبيرين فى فترة رئاسته البنك المركزى، الأول هو «الأزمة المالية العالمية» التى خرج منها النظام المصرفى المصرى معافى، وبحد أدنى من المتاعب والمشكلات، بفضل العقل الذى كان يقود «بنك البنوك»، والرؤية البعيدة للدكتور فاروق العقدة، ثم كان التحدى الثانى والأخطر هو تأثير الثورة المصرية على النظام المصرفى، وقد اجتاز الدكتور فاروق العقدة والبنك المركزى تلك المرحلة بنزاهة وأمانة وشجاعة، فلم يهاجما نظامًا مضى ولم ينافقا آخر وصل إلى السلطة، وظل الجهاز المصرفى واقفًا على قدميه، فى ظل ظروف شديدة الصعوبة بالغة الحساسية، أما مسألة الاحتياطى النقدى وصعوده وهبوطه من أجل المحافظة على سعر الصرف للجنيه المصرى، فتلك قضية فنية أترك تقييمها للخبراء فى علم «النقود والبنوك».
ذلك هو الدكتور فاروق العقدة، الذى درس فى الولايات المتحدة الأمريكية وظل شخصية قريبة إلى القلب محببة إلى النفس محترمة من العقل، ولقد جمعتنى به علاقة صداقة طيبة لأن الرجل كان دائمًا مثارًا للإعجاب والتقدير، فضلاً عن روحه المرحة ونفسه الصافية، لم يلهث وراء المناصب ولم يتكالب على المواقع، فقد كان اسمه يتردد بقوة مرشحًا لمنصب رئيس الحكومة قبل الثورة المصرية وبعدها أيضًا، مما يعكس- إلى حد كبير- القيمة الوطنية للرجل التى لم تتأثر بالتغيير السياسى، لأن الخبرة والنزاهة تفرضان تقدير صاحبهما فى كل الظروف، ولقد جمعتنى به مناسبات عدة، كان طرفها الثالث الصديق المشترك الأثرى المعروف د. زاهى حواس، فقد كانا يدرسان سويًا فى الولايات المتحدة الأمريكية فى جامعة «بنسلفانيا»، وجمعتهما صداقة مبكرة لهذا السبب، وقد التفت حول الدكتور فاروق العقدة مجموعة من رجال البنوك المتميزين، يتقدمهم «هشام رامز» و«طارق عامر» و«هشام عزالعرب» و«محمد بركات» و«حسن عبدالله» و«منير الزاهد»، وغيرهم كثيرون من أبناء المدرسة المصرفية المصرية، ولقد تحامل الدكتور «العقدة» على نفسه طوال الشهور الأخيرة ليواصل مهمته الشاقة، رغم أنه أبدى رغبته أكثر من مرة فى أن يبرح موقعه ويترك منصبه، ولقد جمعتنى به رحلة الطائرة من القاهرة إلى لندن، منذ شهور قليلة، وأسرّ إلىّ برغبته فى مغادرة «البنك المركزى» فى أقرب وقت، وكانت معه السيدة الفاضلة قرينته وابنه الوحيد الذى تربى فى الخارج منذ كان والده طالبًا فى الولايات المتحدة الأمريكية، لكن اللغة العربية لهذا الشاب الواعد متميزة، وهو يقول «إن الفضل فى ذلك يرجع إلى أمى لأن أبى سرقته منا دائمًا شواغل العمل وهموم الوطن».
لقد ترك الرجل موقعه فى الوقت الذى ترك فيه «البنك الأهلى» أيضًا رئيس مجلس إدارته اللامع «طارق عامر»، وهو ما يعنى أن الأوراق المزهرة فى النظام المصرفى المصرى تنصرف منه واحدة بعد الأخرى، لكن مصر فى النهاية هى بلد الكفاءات التى لا تنتهى ومستودع الخبرات الذى لا ينضب أبدًا. إننى إذ أكتب اليوم عن «فاروق العقدة» مودعًا، فإننى أؤكد فى الوقت ذاته أن عطاءه للوطن لن يتوقف لأن الوطنية لا تتجزأ، والالتزام بالمسؤولية رسالة قبل أن يكون وظيفة، لذلك فإننى أعبر فيما أكتب الآن عن جمهرة المصريين الذين يودعونه بالعرفان مثلما استقبلوه بالاستحسان!.. وسوف يبقى «فاروق العقدة» علامة فارقة فى تاريخ النظام المصرفى المصرى وسيظل عطاؤه متواصلاً واسمه مرموقًا.