لماذا كل هذه الدهشة وكل هذا الاستنكار الذى ناله المواطن المصرى حمادة صابر لمجرد أنه انتقل من اتهام الشرطة بضربه وسحله إلى اتهام المتظاهرين بالتضليل والافتراء مع توجيه الشكر إلى رجال الشرطة الذين جرَّدوه من ملابسه وأوسعوه ضربًا وسحلًا بالعصا والبيادة، كاد حمادة أن يعتذر لرجال الشرطة الأفاضل لأن جسده ربما كان لا يمتلك المرونة الكافية أو لأنه لم يلتزم بالريجيم، ولهذا ثقل وزنه مما دفعهم إلى بذل مجهود أكبر فى أثناء قيامهم بتلك المهمة النبيلة. ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، والكثيرون فعلوها وحصلوا على الثمن، ألم يتراجع العديد من أهالى شهداء العبارة «السلام» عن إقامة الدعاوى القضائية وحصلوا على ثمن الدم.
ألم يدفع نجم كبير قبل خمسة عشر عامًا دية لابنه مقابل أن يتنازل الأهالى عن إقامة دعوى قضائية كانت ستنتهى بحبسه بتهمة القتل، هل نسينا رجل أمن الدولة الذى ظهر فى كل البرامج قبل أربع سنوات، مؤكدًا أنه لن يتنازل عن إقامة دعوى قضائية لسجن ابن أحد الأثرياء الذى اعتدى عليه بسيارته وأحدث به عاهة مستديمة، وأنهم يساومونه، لكنه لن يقبل أن يبيع كرامته لقاء بضعة ملايين، واكتشفنا فى النهاية أنه كان فقط يريد أن يزيد ثمن التعويض، هل أذكركم برجل الأعمال الشهير الذى قتل ابنه شابًّا فى النيل ودفع دية وتنازل الأب الفقير عن الدعوى.
الفارق أن العلانية فى الجريمة أحالتنا إلى شهود عيان نريد الثأر لأنفسنا ولم نفكّر لحظة واحدة أن هذا الرجل لم يخرج من بيته إلا بسبب فقدان لقمة العيش وتم سحله وضربة مقابل لقمة عيش، إنها بالنسبة إليه ليست سحلة العمر، ولكنها صفقة العمر.
الذى يستحق كراهيتنا ونقمتنا ليس هذا الرجل، فهو يمثّل حزب الأغلبية من الشعب الذى أحنى الفقر ظهره وأذل كرامته وهو لا يريد سوى أن يحصل على وظيفة تضمن له الحد الأدنى من مقومات الحياة.
الثورة انطلقت بشعار عيش، حرية، كرامة الإنسانية، ولكن الرجل لم يحصل على الاستحقاق الأول العيش، فكيف نحاسبه على إهداره كرامته الإنسانية.
حمادة مثل ملايين، الثورة بالنسبة إليهم تساوى أن تدخل جيوبهم أموال.. عندما كانت تتردد أرقام المليارات التى هربها مبارك خارج الحدود، الكثير من البسطاء اعتقدوا أنه سوف يتم توزيع ثروة مبارك المنهوبة على الشعب وكل منهم سيناله من الحب جانب، وبدؤوا فى توفيق أوضاعهم الجديدة.
حمادة صابر وجد فجأة فى مستشفى الشرطة لواءات كبارًا يبتسمون فى وجهه، بينما كان يخشى من قبل أن تناله نظرة غضب من مخبر أو صول، أحاطوه بفيض من الدلع والطبطبة، مذيعة تقول له وهى تحاوره، أستاذ حمادة ما شعورك فى تلك اللحظة، وأخرى تطارده لكى يجرى معها حوارًا، أصبح فى غضون ساعات قليلة هو الشخصية الأولى على «الفيسبوك»، إنه لا يصدق أن سحلة بسيطة حقَّقت له كل ذلك فى لحظات، الرجل مسحول طول العمر ولم يسأل عنه أحد.
السحلة التى انتفضنا بسببها كانت هى ضربة الحظ التى تمناها، فأبواب السماء كانت مفتوحة أمامه والله استجاب إلى دعائه بالرزق، هو الآن حانق على الإعلام الذى يسعى إلى إفساد تلك اللحظة.
تستطع أن ترى حال مصر من خلال هذا الرجل عامل المحارة البسيط، يوم يشتغل وعشرة لأ، الرجل حائر بين ثلاثة، رئيس إخوانجى وجبهة إنقاذ ومظاهرات فى الشارع، الجبهة ليس لها موقف، هى دائمًا تحاول أن تضبط موجتها على الشارع، موافقتهم على وثيقة الأزهر كانت تعنى أنهم يعتقدون أن هذه هى إرادة الشارع، ولهذا وقّعوا عليها «الخميس» وبشّروا بها فى الفضائيات، ثم عندما وجدوا أن الشارع يوم الجمعة الماضى تجاوزهم، لعنوها فى نفس الفضائيات.
المواطن حمادة أين موقعه؟ ربما كان بالفعل توجه إلى الشارع من أجل التظاهر، فالأمر يعنى بالنسبة إليه بحثًا عن رغيف عيش، ولكنه لن يعنيه ما هو أبعد من ذلك، هل تذكرون فيلم «المواطن مصرى» لصلاح أبو سيف، المأخوذ عن رواية يوسف القعيد «الحرب فى بر مصر»، وافق الفلاح على مقايضة ابنه بابن العمدة وحصل على الثمن، ويذهب ابن الفلاح للتجنيد فى الجيش بدلًا منه وعندما يستشهد لا يستطيع حتى أن يتسلّم جثّته.. لماذا تعاطفنا مع المواطن الذى باع ابنه وتحاملنا جميعًا على المواطن حمادة!!