كريستى لم يسقط بالصدفة ولا برصاصة ضلت طريقها إلى رقبته. إنما قتلوه فى سياق مشروع قتل كبير، يستهدف قتل مفاصل معينة. وهو السياق نفسه، الذى قتل فيه، مينا دانيال والشيخ عماد عفت من قبل. خطورة مينا دانيال، تكمن فى أنه قد يتحول إلى جسر يعبر عليه الأقباط من الضيق الكنسى، إلى فضاء الثورة الواسع. وهو ما سينتج عنه، مد الثورة بمدد بشرى عظيم. تحرص كل الأنظمة، التى حكمت مصر، على أن لا يخرج من فضاء الكنيسة، المحصور فى احتياجاتها اللاهوتية. والكنيسة بطبيعة تكوينها، استمرأت هذه اللعبة، وظلت تستخدم الأقباط كورقة تعظم بها مكاسبها الكنسية. والحقيقة أن هذا موقف مفهوم من الكنيسة إذا وضعناها فى تاريخها كمؤسسة دينية مصرية رسمية. فهذه صفة لصيقة بتلك المؤسسة، منذ كهنة الإله آمون وحتى الأزهر والكنيسة.
حين احتل الإسكندر مصر، بدلا من أن تقود المؤسسة الدينية النضال ضده كغازٍ ومحتل، أخذه الكهنة، أدخلوه المعبد من باب. ثم أخرجوه من الباب الآخر، يقولون للناس، الإسكندر ابن الإله آمون. ولو راجعت قليلا تاريخ المؤسسات الدينية المصرية الرسمية، ستجد ممارساتها، منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا، لا تخرج عن هذا السياق إلا نادرا. لذا تحرص كل الأنظمة التى حكمت مصر، باختلاف رؤيتها لنفسها وللعالم، على أن تبقى الكنيسة ممثلا وحيدا للأقباط.
ما ينطبق على مينا دانيال ينطبق تقريبا على الدكتور عماد عفت. الرجل لم يكن من مشايخ الأزهر العاديين، بل كان فى قلب مؤسسة الأزهر. وما يجمعه مع مينا هو الإخلاص الشديد للثورة. وهذا الإخلاص فى حد ذاته، مجرد من كل سوء، يجعله يتحول فورا إلى عدو للثورة المضادة (إخوان + عسكر). فضلا عن كون الشيخ يفتح سياقا للثورة مع مؤسسة الأزهر قد يتحول إلى جسر يعبر عليه الأزهر، أو أجزاء مهمة منه، إلى صفوف الثورة. ومن ثم فلا بد أن يأخذ عماد عفت جزاء مينا دانيال وهو القتل.
تلك مقدمة لا بد أن تفضى بنا إلى كريستى. قدامى الثوار، الأقدم من كريستى وجيكا ومحمد الجندى، يعرفون الإخوان. بعضهم بحكم الخبرات الشخصية، حين احتكوا معهم فى الجامعات فى حقبة السبعينيات. وبعضهم يعرف طبيعة الإخوان من طبيعة تكوينهم كنظام فاشى ومن قراءة تاريخهم، من لحظة الإنشاء حتى لحظة المصب. من يعرفهم بحكم خبرته، قد يرفع البنطلون عن ساقه ليريك أثر جنزير واحد من الإخوان عليها. أو يتحدث وهو يتحسس رأسه ليريك مطرح شومة هَوَى بها واحد منهم عليها. هذا عمن احتك بهم مباشرة. أما من يعرفون طبيعة الإخوان، بحكم تكوينهم وتاريخهم. فهم يعرفون أن الإخوان لم يشاركوا باقى المصريين فى أى نضال. بل كانوا على الدوام يقفون إلى جنوب خصوم المصريين، من عند الملك فاروق (وقبله أبوه فؤاد) مرورا بيوم ٢٥ يناير، وحتى يومنا هذا يا مسلم يا موحد بالله، ظل الإخوان ينحازون للتنظيم وأهدافه (بالأحرى هلاوسه) على حساب مصر والمصريين.
كريستى وجيكا ومحمد الجندى وكل جيلهم لا يعرف هذه المعلومات، لذا وقع فى فخ الإخوان بسهولة. وكانت النتيجة أن الثلاثة ومعهم معظم جيلهم انتخبوا مرسى. والطبيعى أن يفاجأوا ببؤس هذا الاختيار. ولأن مفاجأتهم كانت أعظم، جاء رد فعلهم أقوى من رد فعل الأجيال التى سبقتهم. الأجيال السابقة تضغط على مرسى من أجل إلغاء دستور الإخوان النازى وإقامة حكومة إنقاذ وطنى تقوم بتنفيذ برنامج الثورة. بينما كريستى وجيله لهم طلب واحد: يسقط.. يسقط حكم المرشد.
أما بالنسبة إلى الإخوان فما ينطبق على عماد عفت ومينا دانيال هو بالضبط ما ينطبق على كريستى. فإذا كان دانيال يفتح جسرا للأقباط مع الثورة وعفت يفتح جسرا بين الثورة والأزهر. فإن كريستى لا يقل خطورة. كريستى خبير إنترنت من طراز عالمى. بعد استشهاده عرفنا أنه عضو فى منظمة أنونيموس. «ويكبيديا» على موقعها تكتب: «انضم نشطاء مجموعة الأنونيموس لمتظاهرى حركة الاستيلاء على وول ستريت، أعضاء الأنونيموس نزلوا لمنتزه زوكوتى فى نيويورك، ونظموها جزئيا بعد أن أصبحَ معروفا أن بعض المحتلين المتظاهرين قد يتعرضون للعنف. استخدم الأنونيموس شبكات التواصل الاجتماعى كتويتر تريندز لمتابعة المتظاهرين لتجنب الفوضى، المحافظة على سلميّة الاحتجاجات. بعض الاحتجاجات الصغيرة حدثت خارج سوق لندن للأوراق المالية فى بداية مايو 2012 خلال احتجاجات احتلال يوم من مايو». انتهى الاقتباس. ولكن الذى لم ينته، حتى باستشهاد كريستى، هو خوف الإخوان من فتح جسر بين الثورة والفضاء الإلكترونى الواسع. وهو فضاء ثورى، بطبيعة التكوين.