نقلا عن الوطن
لعهود وحقب طويلة، اعتادت مصر الاحتفال بذكرى واحد من أيام الوطنية المصرية، الذى يمثل نموذجاً للجهاد من أجل الاستقلال عن الاستعمار، وهو يوم يتشارك فيه الوطن بكل طوائفه وأبنائه ومؤسساته فى الإحساس بمشاعر الزهو والفخار بمؤسسة الشرطة المصرية، وموقف أبنائها المشرّف فى وجه قوات الاحتلال قبل 68 عاماً.
بعد 59 عاماً على سقوط 50 شهيداً و80 جريحاً من أبناء الشرطة المصرية برصاص جنود الاحتلال، رفضاً للاستسلام وتسليم أسلحتهم، جاء من يسعى لإهالة التراب على تاريخنا الوطنى، وعلى ملحمة من ملاحم أبناء الشعب فى وجه الاحتلال، ساعياً لإزاحة يوم الفخر من التاريخ والإساءة له تحت مبررات غامضة كلها تؤشر لنوايا خبيثة كانت ستؤدى لإعادتنا مرة أخرى لأيام ولت ونرفض أن تعود.
القرارات لها مغزاها، والاختيار له دلالاته، ويقولون إن القرار لا معنى له إن لم يتم اختيار التوقيت المناسب له، فتوقيت القرار أهم من القرار ذاته، وهو الأكثر تعبيراً عن الأهداف الكامنة وراء القرار، وفى تقديرى أن تاريخ أو توقيت 25 يناير لم يخرج عن هذا الإطار، بل جاء تعبيراً دقيقاً عن محاولة الإساءة لمشهد من تاريخ الوطن.
مصر تحتفل منذ العام 1952 فى يوليو من كل عام بعيد الثورة، ثورة الشعب على حكم امتد لقرون طويلة، تغيرت فيه الأشكال وظل الجوهر «حكم العثمانلى» تحت مسميات مختلفة، وبعد 59 عاماً من الاحتفاء بثورة غيرت تاريخ المنطقة، وتركت بصماتها على العالم أجمع، يأتى من يطالبنا بإلغاء هذا الاحتفال أيضاً، وإقصائه من تاريخنا.
ليست مصادفة أن يأتى لنا بعد كل هذه السنوات من يشوه مناسبة استشهاد أبناء الوطن فى مواجهة المحتل، ومن يطالب بإنهاء احتفالنا بالثورة على المحتل تحت مبررات خبيثة، وادعاءات لا تقف على دليل أو سند، قدر ما تستند على أكاذيب وخداع، ودعم ومساندة خارجية لجماعة وعملائها خدعت الشعب لبعض الوقت، لكنها فشلت فى خداعه كل الوقت.
هل يمكن وضع أحداث يناير 2011 فى حالة مقارنة مع عيد الشرطة؟ وبمعنى أكثر تحديداً، هل يمكن وصف حدث بأنه ثورة شعبية وهو كان يهدف للإساءة إلى واحد من أهم أحداثنا الوطنية فى تاريخ كفاح الوطن ضد الاحتلال البريطانى.
السؤال من زاوية ثانية، هل يقوم شعب بثورة ليمحو من تاريخه لحظة مضيئة لا يختلف عليها شخصان؟ وكيف نصف حدثاً استهدف فعلاً وقولاً تصفية يوم تاريخى وطلب حذفه وشطبه من كتاب الوطن وإحلال بديل عنه احتفالاً بأحداث أطلقوا عليها ثورة؟
ليس تكراراً للسرد الإشارة إلى أن عيد الشرطة فى بلادنا ليس عيداً فئوياً لصالح فئة أو أبناء مهنة، لكنه عيد وطنى فى المقام الأول انضم فيه أبناء الشرطة لصفوف الثوار والمجاهدين والثائرين ضد الاحتلال البريطانى وسجلوا واحدة من أروع صفحات النضال ضد الاستعمار، وكان صمود نحو 150 فرداً من الشرطة بأسلحتهم البدائية داخل قسم الشرطة بالإسماعيلية فى مواجهة جحافل قوات الاحتلال بأسلحتها الثقيلة والدبابات، وسقوط 50 شهيداً وإصابة 80 آخرين نموذجاً على تماسك أبناء الوطن فى مواجهة الاستعمار وتكوينهم حلفاً صلباً للمطالبة بالاستقلال الوطنى.
ما جرى فى الإسماعيلية فى 25 يناير 1952 كان بوابة من بوابات عدة فتحت الباب أمام سيل الثورة الهادر الذى انطلق بعد ستة أشهر من معسكرات الجيش المنحاز لمطالب الشعب كعادته ليسقط الحكم الملكى ويطرد الاحتلال البريطانى ويحقق الاستقلال الوطنى حفاظاً على دماء الشهداء الذين قضوا من أجل الوطن.
هل يُمكن الاقتناع بأن مطالبات الاحتفال بمثل هذا يوم هى مطالبات وطنية؟ أو أنها تستهدف تحقيق حالة وطنية؟ أو تستجيب لمطالب شعبية وتساعد على بلوغ حالة نهوض وطنى فى لحظة تاريخية معينة؟
نحن أمام حالة لا يجوز المقارنة فيها، نحن أمام حدث وطنى بامتياز ساهم فى ثورة شعب وتحقيق الاستقلال الوطنى، لذلك حين يأتى من يطالب بإلغائه فلا مجال لافتراض حُسن النوايا، وإنما هو يقين بأن هؤلاء يسعون إلى طعن الحركة الوطنية المصرية وتاريخها فى القلب، لأن أى تجاوزات فى الممارسة أو السلوك لا تعنى أبداً حذف صفحة مضيئة من تاريخ الوطن.
25 يناير 1952 يوم لشعب مصر وعيد عرفان لشهداء ضحوا من أجل الوطن. والثورات لا تستهدف أشخاصاً، أو محو تاريخ، إنما هى فعل تقدمى يقود البلاد لمستقبل مشرق، وليس للعودة بالتاريخ للخلف، وما حدث فى يناير 52 ملحمة وطنية مهدت لثورة شعبية بعدها بستة أشهر، ويأتى لنا الآن من يطالب بحذفها من تاريخنا.