نقلا عن جريدة الوطن
فى خيمة «مسك»، بمشعر منى المقدس، كانت هناك قاعة تحمل هذا العنوان: «رحلة الحج الافتراضى»، وهى رحلة تستفيد من التجليات الرقمية فى محاكاة شعائر الفريضة، التى تمثل الركن الخامس من أركان الإسلام، حيث يستطيع الزائر عبر شاشة يثبتها أمام عينيه أن يستعرض كافة شعائر الحج، وأن يزور «افتراضياً» كافة مواقعه.
لقد منحنا الإعلام الرقمى مزايا فريدة على صعد مختلفة، وها هو ينجح فى مقاربة أحد أركان الإسلام عبر الاستعراض الوافى للأماكن المقدسة التى يزورها حجاج بيت الله الحرام فى كل موسم من مواسم الحج، بما يقدم ملخصاً دقيقاً لأركان الفريضة ومناطق تأديتها.
وفى مقابل هذه المزايا الفريدة، تبرز مشكلات وتحديات كبيرة يطرحها الإعلام الرقمى، خصوصاً على مفاهيم السلام والتعايش والتفاهم، من خلال «مواقع التواصل الاجتماعى»، بما تشكله من مخاطر، عبر أنماط استخدام خاطئة ومنحرفة.
وكأى مُختَرع حديث، تظهر له مزايا، كما تبرز له مشكلات، سيكون الإعلام الرقمى أداة يمكن استخدامها من أجل تعزيز مفاهيم الدين ومقاصده النبيلة من جانب، أو تقويض المرامى الروحية عبر بث الأفكار ونشر التوجهات السلبية من جانب آخر.
ولهذا السبب تحديداً، حرصت «ندوة الحج الكبرى»، التى تقام سنوياً، منذ عقود، على هامش أداء فريضة الحج، فى مكة المكرمة، على مقاربة دور هذا الوافد الإشكالى، إذ خصصت الندوة محورها الخامس هذا العام لمناقشة «تطبيقات الإعلام الرقمى وأثرها فى خدمة الحج ونشر السلام».
سعت الندوة، التى أقيمت عشية بدء شعائر الحج مباشرة هذا العام، إلى مقاربة مفهومَى الحج والسلام، فى محاولة مُقدرة لشرح المقاصد السامية للركن الخامس من أركان الإسلام فى ما يتعلق بنبذ العنف وبناء ثقافة السلام والتعايش والفهم المشترك.
وناقش المحور الخامس من محاور الندوة عدة موضوعات تربط بين الإعلام الرقمى و«صناعة السلام»، من خلال أبحاث تطبيقية حاولت تقصى هذا الموضوع من مختلف أبعاده.
وفى البحث الأول، حرصت الدكتورة ناجية قموح، أستاذ التقنية الرقمية بجامعة قسطنطينة، على مناقشة استخدام أدوات الإعلام الرقمى فى توعية الحجاج، وعرضت باستفاضة التطبيقات التى استخدمتها وزارة الحج والعمرة من أجل تسهيل أداء الفريضة على الحجاج، وربطهم رقمياً بمرافق الخدمة التى أنشأتها الوزارة وأدامتها من أجل السهر على راحة الحجيج.
من حسن الحظ أن وزير الحج والعمرة الدكتور محمد صالح بنتن حصل على درجة الدكتوراه فى علوم الحاسب، وعمل خبيراً للتقنية فى مشروعات عديدة، لذلك، فقد جعل استخدام وسائط الإعلام الرقمى على رأس أولويات الوزارة فى إدارتها لموسم الحج منذ تولى منصبه، وهو أمر بدأت نتائجه الإيجابية فى الظهور بقوة، خصوصاً فى ما يتصل بالسلاسة والانتظام وتيسير تحركات مئات آلاف الحجاج فى رقعة جغرافية محدودة وفى وقت واحد تقريباً.
ومن جانبه، ناقش خير الدين حمنتوش، من البوسنة والهرسك، دور وسائل الإعلام الرقمى فى نشر المضامين الفقهية للحج بمختلف اللغات، حيث ظهر أن هناك جهوداً كبيرة بُذلت على مدى سنوات من أجل ترجمة، وتحرير، وعرض الأدبيات الفقهية المتصلة بفريضة الحج، لتكون متاحة للمسلمين الراغبين فى أداء الفريضة، وغيرهم، فى مختلف الدول التى يوجدون فيها، وبكل اللغات التى يتحدثون بها.
عبر تلك التقنيات أمكن لكل حاج أن يتعرف إلى المضامين الدينية المتعلقة بأداء الفريضة، أياً كانت اللغة التى يتحدث بها.
قدم المهندس أحمد الغمرى، من السعودية، عرضاً موثقاً من جانبه للتطبيقات التقنية التى تستخدمها وزارة الحج والعمرة لخدمة الحجاج، حيث ظهر أن الحجاج المتصلين بالإنترنت عبر هواتفهم الذكية يمكن أن يجدوا إجابات ناجعة عن عديد الأسئلة التى تتعلق بمسارات تحركهم، أو اللجوء إلى الطوارئ، أو التزود بالخدمات الصحية، أو معرفة القواعد الفقهية لأداء الشعائر، من خلال تلك التطبيقات.
أما كاتب هذه السطور، فقد قدم بحثاً عن دور وسائط «التواصل الاجتماعى» فى نشر ثقافة السلام وإرساء قيمه وتعزيزه، حيث لفت إلى تصاعد الحيز الذى تشغله تلك الوسائط فى حياة الإنسان المعاصر، إلى درجة تراجعت معها أهمية الكثير من الوسائط التقليدية.
وفى هذا البحث ظهر أن 87% تقريباً من المبحوثين يتزودون بالأخبار عبر وسائط رقمية مثل «الفيس بوك» و«تويتر»، وهو أمر يطرح إشكالية كبيرة تخص الوظيفة الإخبارية المتصاعدة لتلك الوسائط.
وظهر أيضاً أن غالبية المبحوثين يعتقدون أن تلك الوسائط يمكن أن تشيع مفاهيم ضارة بالسلام، وأن تؤجج نزعات العنف والتطرف، وأن تتخذ منحى تحريضياً فى كثير من الأحيان.
نسبة ضئيلة جداً من المستطلعة آراؤهم خلال إجراء هذا البحث أفادت بتلقى دعاوى أو مبادرات، عبر تلك الوسائط، لترشيد التفاعل، بما يعزز المفاهيم الإيجابية المتصلة بالسلام، وينبذ دعوات العنف، ونسبة أقل بينهم أفادت بأنها تجاوبت مع تلك المبادرات والدعوات.
يشير هذا الاستخلاص إلى تضاؤل فرص بناء السلام عبر تلك الوسائط، طالما أنها لا تخضع لأى تقويم أو ضبط سوى هذا الذى يرتضيه أى مستخدم لذاته، وطالما أن سماتها الاتصالية تُبقى محتواها، فى الغالب، بعيداً عن المتابعة والتقويم.
لقد ظهر، عبر هذا البحث، أن تلك الوسائط كانت ولا تزال عامل خطورة فى ما يتصل بقدرتها على إشاعة مفاهيم التطرف والتمييز ونشر الأخبار المختلقة والإفادات المضللة.
يخلص البحث إلى ضرورة تعزيز المبادرات الجماعية لمستخدمى تلك الوسائط فى ما يتصل بالتزام أنماط تفاعل إيجابية وأكثر قرباً من مفاهيم السلام، ولا ينصح فى هذا الصدد بالارتكاز إلى آليات الوعظ الدينى، حيث أشارت بحوث عديدة إلى أن مستخدمى تلك الوسائط لا يفضلون الوعظ المباشر، بقدر ما يرغبون فى المشاركة فى بناء تجاربهم عبر الحوار وبطريقة تشاركية ديمقراطية.
لقد نجحت «ندوة الحج الكبرى» هذا العام فى مقاربة هذا الموضوع بطريقة علمية مثمرة، راعت كافة الأسس المنهجية المتوخاة فى إنتاج البحوث، فى وقت لم تغفل فيه خصوصيتها الفريدة، باعتبارها حدثاً يتزامن مع أداء فريضة الحج، ويتسق مع ما يعيشه الحجاج خلال أدائهم للشعائر من أجواء روحانية.
لم يكن بالإمكان أن تنجح الندوة فى تحقيق أهدافها من دون رعاية وزير الحج المختص فى التقنية، والذى حرص على افتتاح أعمالها وتكريم المشاركين فيها، ومن دون إدارة واعية للدكتور خالد الفرم، أستاذ الإعلام السياسى بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وكانت الجهود التنظيمية التى أشرف عليها باقتدار الدكتور هشام العباس، رئيس اللجنة التنظيمية للندوة مبهرة، مثلها مثل الضبط والإحكام العلمى الذى تحقق بفضل جهود الدكتور يوسف الفقى رئيس اللجنة العلمية للندوة.
تشير الندوة إلى عالم جديد ودور جديد لتلك الوسائط، التى لا تمل من مفاجأتنا يوماً بعد يوم، بما تمتلكه من نفاذ وأثر يتحقق فى كافة جوانب حياتنا المادية والروحية، وهو أمر يفتح الباب أمام مقاربات بحثية جديدة مطلوبة وضرورية.